هنري زغيب
أَمام قصيدةِ حُبٍّ أَو غزَل، لوحةٍ لوجه امرأَة، مقطوعةٍ موسيقية مُهداة إِلى امرأَة، كتابٍ أَهداهُ صاحبه إِلى حبيبتِه بالحرفين الأَولين من اسمها، … غالبًا ما تَذهب نيَّةُ المتلقِّي للتعرُّف إِلى شخصية تلك المرأَة، وعلاقة المبدع بها.
وهو هذا ما كان لي أَمام رائعة ليوناردو داڤِـنْتْشي “الموناليزا”، لكثرة ما تداول الدارسون لُغزَها الحقيقي وتفاوتَت التقديرات.
ليوناردو والنساء
لكنني، لكتابة هذا المقال، ذهبتُ في بحثيَ أَبْعد من اللوحة الواحدة، كي أَتبيَّن أَربعَ نساء رسمَهُنّ ليوناردو، وما كان من ظرفٍ لرسمه إِياهُنّ. فالمعروف عن ليوناردو أَنه كان شغوفًا بالنساء يُلْهِمْنَه فيُبدع متفنِّنًا في تقنيةِ رسْمِهِنّ. وهنا فرادَتُه، فعصرئذٍ في زمن النهضة الإِيطالية الشهيرة (انطلقَت من فْلورنسا في القرن الخامس عشر ثم امتدَّت منها إِلى كل أُوروپـا) كان فنانو النهضة يرسمون الرجال فقط دون النساء، وإِن رَسَموهنَّ ففي شكل هامشيّ أَو ثانويّ. وجاء ليوناردو فأَبدع بتخصيص لوحات مستقلَّة للمرأَة، لا متأَنِّيًا برسْم وجهها فقط ناقلًا ملامحه بشكل مسطَّح، بل متأَنِّقًا بالدخول إِلى ملامح شخصيتها وطبعها ومزاجها. رسَمَها كينونة مستقلَّة مشعَّة لا مجرَّد وجه ذي جمال بارد. لم يكن جمالها وحده هدفه بل التعابير في فكرها، في قسمات وجهها، في حدقة عينيها، في حركة جسدها، كما ذكَر في نصه الشهير “بحث في الرسم” موضحًا أَن “رسم المرأَة لا يكون في الاكتفاء بقَسَمات الوجه بل في مسْح ظلال شفيفة على الوجه فيبدو أَكثر أُنوثة ونُطقًا”.
أَربع نساء
ما كتبَه في نصِّه نفَّذه في رسْمه أَربعًا من هاتيك نساء. فمن كُنَّ تلك الأَربع؟
- المرأَة والنِمس: هي إِحدى أَجمل اللوحات في تاريخ الفن الغربي. رسَمها ليوناردو للصبيَّة سيسيليا غالّيراني (1473-1536)، الجميلة الموهوبة المثقفة أَدبًا وموسيقًى، عشيقة لودوڤـيكو سْفورْزا دوق ميلانو. رسمَ في حضنها نِمْسًا أَبيض، رمز الوداعة في عالم الحيوان. وفي احتضانها النِمْسَ الوديع رأَى مؤَرِّخو النهضة الإِيطالية رمزَ تدجين لودڤـيكو بشخصيَّتها، وتأْثيرها عليه ليكون وديعًا كالنِمْس في حضنها. وتأَنّى ليوناردو بإِبراز النُور العميق في عينَيها، وجعلها إِلى الْتفاتةٍ جانبية تُبرز أُنوثتَها التي أَغوت غير لودڤيكو كذلك. كان لها تأْثير ثقافي في بلاط ميلانو وكتبَت قصائد باللغة الإِيطالية الحديثة العهد فترتئذٍ. شبَّهها معاصروها بأَجمل سيدات العصور القديمة، وبلَغ تأْثيرها الأَدبي أَنْ لقَّبها معاصروها بــ”سافو الجديدة”.
- جينيـڤـرا دي بِنْتْشي: رسمها ليوناردو شابة جميلة متخطِّيًا بها الرسوم الذكورية في بيئتها. هي ابنة عائلة فْلورنسية مُترفة غنية. لكنَّ ليوناردو أَلبَسها ثوبًا بسيطًا عاديًّا كي يركِّز المشاهد على ملامح وجهها لا على تفاصيل تَرَفها. جعلها تنظر مباشرةً إِلى الرائي حتى تلتقي عيناه مباشرةً بعينيها العميقتين. وعلى مقلب اللوحة كتب ليوناردو: “هي ليست امرأَة جميلةً وحسْب، بل نقيَّة تقيَّة”. وأَثبت في لوحته نظرية أَنَّ العينين مرآة الروح.
- الموناليزا: لعلَّها أَشهر لوحة في العالم لوجه امرأَة. وهي لوحة ليوناردو المفضَّلة، ظلَّ يحتفظ بها في بيته حتى يوم وفاته. تلك السيدة هي ليزا غيرارديني أَو ليزا جيوكوندو أَو مونَّا ليزا. ولدَت سنة 1479 في عائلة فلورنسية غنية، وتزوَّجت من تاجر الحرير فرنشسكو دل جيوكوندو فاتخذت اسم أُسرته (من هنا تسمية اللوحة أَيضًا “الجيوكوندا”). أَنجبَت خمسة أَولاد، وتوفيَت سنة 1542. كانت المرأَة المترفة عصرئِذٍ تُلقَّب “مونَّا” (تصغير مادونَّا)، من هنا دمْج الكلمتَين “مونَّا” و”ليزا” (أَي سيِّدتي) وانتشارها في العالم كلمةً واحدة “مونَّاليزا”.اللوحة اليوم تبدو باهتةً قليلًا بظلالٍ ضعيفةِ البريق بين البُنّي والأَصفر، لكنها كانت حتمًا في زمانها أَكثر إِشراقًا بأَلوانها. استعملَ لها ليوناردو تقْنية التدَرُّج اللوني (من الفاتح إِلى الغامق) ليُبقي زوايا العينَين والشفتَين في تَمَوُّج الظلال، فخلَق للموناليزا تعبيرَ وجهٍ ملتبِس التعبير، وملامح بسمةٍ ذاتِ لُغز بين الحزن والرضا ما زالت تحيِّر زوَّار اللوڤـر عبر العصور، كما تحيِّر الخبراء بتأْليف اللوحة وخلفيَّتها وتقنية ليوناردو وهوية هذه المرأَة التي خلَّدها في لوحته.
- ليدا والإِوزَّة: لم يرسم ليوناردو نساءً ثَريَّات أَو مترَفاتٍ فقط، بل رسم كذلك المرأَة الغاوية، كلوحة “ليدا والإِوزَّة”، وهي أَكثر لوحاته إِثارةً، لِما فيها من تفاصيل شاءها مدخلًا إِلى الجسد المغري المثير. ليدا في الميثولوجيا اليونانية هي امرأَة ساحرة الجمال، اجتذبَت إِليها كبير الآلهة زوس فتحوَّل إِوَزَّةً وجاء يُغويها فانساقت إِليه، ووَلَدت له ابنةً هي هيلينا التي بسببها لاحقًا اشتَعلت حرب طروادة، وفي ما بعد تزوَّجها تينداروس ملك سْـپـارتَة.
المرأَة ليست جمالًا وحسْب
نِظرةُ ليوناردو حيالَ النساء وجد فيها معاصروه تجديفًا على القيَم الكانت سائدةً في أَيامه. لكنه لم يحفلْ. وواصل رسمه روائعَ غيَّرت كل مفهوم الرسم الأُنثوي، ووسَمَت ريشتُه العبقرية هالةَ امرأَة خالدة عبر العصور، رسَمَها لغزًا لا يُدركه رجُل، ناعمًا، لذيذًا، شهوانيًّا، مُحيِّرًا، مُراوغًا، ملتبِسًا، ساخرًا. لم يتوقف عند حدود جسدها وتفاصيله، بل أَرسل خياله إِلى دواخلها فرسَم روحها ومزاجها وشخصيتها وبلغَ تفكيرها الأَعمق في أَصفى انكفائه استبْطانًا نفسيًّا داخليًّا عميقًا.
وإِنه فعلًا هكذا سرُّ المرأَة الاستثنائية، في اللوحة، في القصيدة، في المعزوفة، … أَن تكون سؤَالًا يظل باحثًا عن جوابٍ أَروعُ ما فيه أَنه لا يأْتي. ومنه يُشْرقُ فجرُ الإِبداع.
الصُوَر
- الموناليزا في نسخة متحف پرادو (مدريد) قبل الترميم وبعده
- المرأَة والنِمْس – 1490 (متحف ڤـرصوڤـيا – پـولونيا)
- جينيڤرا دي بِنْتْشي – 1475 (المتحف الوطني للفنون – واشنطن)
- ليدا والإِوَزَّة – 1505 (متحف روتردام – هولندا)
- الموناليزا (1503) – متحف اللوڤـر – پاريس)