هنري زغيب
في الجزء الأَول من مقالي “عشْر فُرَص في حياة جبران شكَّلَت حياته” (“النهار العربي” – الجمعة 23 تموز/يوليو 2021) ذكرتُ أَن “الفرصة الرابعة” كانت لقاءَه الصحافي اللبناني أَمين الغريّب، أَول من نشَر له مقالاته الأُولى، فأَطلقَه كاتبًا ناشئًا موهوبًا جديدَ الأَفكار والأُسلوب. هنا قصة ذاك اللقاء ونتائجه.
ذلك العرس في بوسطن
كان جمعٌ في بوسطن صبيحة ذاك الأَحد 7 أَيار 1905. كان عُرس لبناني، بين المدعوين إِليه “الأُستاذ أَمين”: صحافيٌّ لبنانيّ أَنشأَ في نيويورك سنة 1903 جريدة “الـمُهاجر”، أَخذ اللبنانيون يتلقَّفُونها مع سائر الصحف اللبنانية فترتذاك في نيويورك (“الهدى” لنعوم مكرزل، “مرآة الغرب” لنجيب دياب، وسواهما).
تقدَّم والدُ العريس من الصحافي: “أُستاذ أَمين، أَودُّ أَن أُعرِّفَكَ بشاب من عندنا، من بْشرّي، لديه تصاوير يدوية يحب أَن يُريكَ إِياها إِذا سمح وقتُكَ في بوسطن”. لم يَطُل الحوار حتى تقدَّم الشاب من “الأُستاذ”: “أَنا جبران خليل جبران. لي الشرفُ أَن أُطْلِعَكَ على بعض رسُومي”. وما انتهَت حفلةُ العرس، غَداءً ورقصًا وغناءً، حتى كان “الأُستاذ” يتوجَّه مع الشاب البْشرَّاوي إِلى شقَّته المتواضعة في شارع إِدينبورو. فتح الشاب ملفَّات لديه ووضَع بين يَدَي “الأُستاذ” ما فيها من رسوم بالقلم الرصاص وما كتبَت عن رسومه ومعارضه الصحفُ المحلية في بوسطن، وخلُص إِلى خاتمة: “… ولَدَيَّ أَيضًا بعض الكتابات على دفتر صغير، هل لي أَن أَقرأَ لك بعضًا منها”؟ وما راح الشاب يقرأَ قطعةً، قطعتَين، ثَلاثًا، حتى حدَسَ “الأُستاذ” بحسِّه الصحافي أَنه أَمام موهبة أَكيدة تنمو، في حاجة إِلى صقل وتشجيع.
تاريخيةٌ تلك الزيارة في مسيرة جبران الأَدبية، إِذ كانت فرصةَ جبران الأُولى إِلى النشر وبدْء شهرةٍ أَوصلَتْه لاحقًا إِلى مَن وما هو اليوم. يومها عرض أَمين الغريّب أَن ينشر في “الـمُهاجر” مقالًا أُسبوعيًّا لجبران لقاءَ دولارَين. وما خرج أَمين الغريّب من تلك الشقة المتواضعة حتى أَسرع جبران فرِحًا يُخبر شقيقتَه مريانا أَن كتاباته (بعد رسومه في تلك المرحلة الباكرة لدى فْرِد هولند داي) ستردُّ عليه ماديًّا بفضل أَمين الغريّب، ما يخفِّف عنها صرْفَها عليه من عمَلها اليوميّ الـمُضْني بالإِبرة خيَّاطةً لدى السيدة طحَّان في بوسطن.
من هو؟
أَمين منصور الغريّب صحافي لبناني ولد في بلدة الدامور سنة 1881. هاجر إِلى نيويورك سنة 1903 وأَنشأَ فيها جريدته “الـمُهاجر”، ثم عاد إِلى لبنان سنة 1908 ليؤَسس في بيروت جريدة “الحارس” الأُسبوعية. نفاه العثمانيون إِلى الأَناضول في بداية الحرب العالمية الأُولى (1914). تنقَّل موظَّفًا بين حلب ودمشق، ثم عاد إِلى لبنان ليواصل إِصدار “الحارس” سنة 1923، وبقي يحرِّر في القاهرة (“الأَهرام”) وبيروت (“الأَديب”) حتى هاجر سنة 1945 إِلى ساو پاولو، وفيها أَعاد إِصدار مجلته “الحارس” إِلى أَن توفي هناك سنة 1971. له عدد من المؤَلَّفات (“ورد وأَشواك”، “في زوايا القصور”، “الخليقة ونظامها”،…)، والمترجَمات (“الحب المكتوب”،…)، وله بعض القصائد الزجلية.
بعد زيارته تلك شقةَ جبران بدأَ ينشُر له على الصفحة الأُولى (تشجيعًا) مقالاتٍ أُسبوعيةً في زاوية سمّاها “دمعة وابتسامة”. واحتضن جبران أَدبيًّا، مصحِّحًا له بعض الأَخطاء في لغته العربية. بعد عدد من المقالات الأُسبوعية القصيرة، أَصدر له في كتابٍ مقالتَه الطويلة “نبذة في فن الموسيقى” (1905) فكان ذلك أَولَ كتاب لجبران بالعربية (عن مطبعة جريدة “الـمُهاجر” – 21 شارع واشنطن – نيويورك). وفي السنة التالية (1906) نشَر له كتابه العربي الثاني “عرائس المروج”، وبعده بسنتَين نشَر له كتابه الثالث “الأَرواح المتمردة” (1908) وصدَّره بمقدمة منه حول “أَفكار جبران وأُسلوبه المبتكر”.
بعد عودته إِلى لبنان، بقي على مراسلة مع جبران الذي ظلَّ يكنُّ الوفاء له ولـ”الـمُهاجر” التي أَطلقت شهرته كاتبًا لدى أَوساط الجالية اللبنانية في نيويورك وبعض الولايات الأَميركية.
وكان الغريّب على حجم الوفاء: بعد وفاة جبران (10 نيسان/أَپريل 1931) أَفرَدَ في مجلته “الحارس” – بيروت (السنة الثامنة، العدد الثامن، أَيار/مايو 1931) ملحقًا خاصًا عن جبران (ص 689 -704) روى فيه لقاءَه الأَول به سنة 1905، وكيف قدَّمه إِلى قراء “الـمُهاجر”.
هنا التفاصيل بقلم الغريّب.
دمعتُهُ على جبران
في باب “وَفَيَات المشاهير” (ص 689) كتب الغريّب: “هذا الكوكبُ الساطع في سماء الآداب العربية والإِنكليزية، هذا الكاتبُ الطليُّ العبارة، السامي الخيال، هذا المصوِّر اليدويّ الرمَّاز الذي ما كاد ينقُش بريشته الطرية بَواكرَ رسومه حتى افتخرَت به جرائدُ بوسطن الأَميركية، لفظَ أَنفاسه الأَخيرة في الولايات المتحدة في 13 نيسان المنصرم وله من العمر 48 عامًا” (أَخطأَ الغريّب هنا في تاريخ الوفاة وهو 10 نيسان/أَپريل وليس 13).
يُكمِل الغريّب: “… وقد اهتزَّت محافل الأَدب لموته في جميع أَنحاء العالم، وأَسِف الأَميركيون عليه بعدما تذوَّقوا في مؤَلفاته الأَخيرة، بلُغَتهم الإِنكليزية، طعمَ أَفكاره العالية وخياله البعيد. لكنَّ أَحقَّ الناس بالأَسف عليه هو صاحبُ هذا القلم صاحبُ مجلة “الحارس” الآن وجريدة “الـمُهاجر” قبلًا، الذي كان له حظُّ اكتشافه وإِدراك ما في عقله من رجاحة وفي دماغه من نبوغ، فاجتذبَه من أَعماق مخبإِه في مدينة بوسطن، وبسَط أَمامه صفحات جريدة “الـمُهاجر” ليمشي بين أَعمدتها إِلى أَرقى المراتب في العالم العربي على خطَرات “دمعة وابتسامة”…”.
بعد هذه المقدمة الرثائية، يروي الغريّب تفاصيل التقائه جبران يوم العرس.
المقال الثاني: “كيف التقيتُ جبران”
كلام الصُوَر:
- جبران في “الحارس” (الغلافان الأَول والأَخير)
- أَمين الغريّب مُكتشِف جبران
- من مؤَلَّفات أَمين الغريّب
- الصفحة الأُولى في “الحارس” من المقال عن جبران