هنري زغيب
يعرف العالم الموسيقي ومحبُّوه ومتابعوه أَعمالَ مؤَلِّفيه المبدعين في كل عصر. ونادرًا ما يعرف متابعو هذا العالم أَنَّ في تاريخ التأْليف الموسيقي مبدعاتٍ كَتَبْنَ موسيقًى خالدة يطمسُها النسيان في أَجواء المؤَلِّفين المبدعين.
مع هذا المقال سأَبدأُ بإِبراز مؤَلِّفات موسيقيات تَعزف مؤَلَّفاتِـهنَّ أُوركستراتٌ عالَمِية في دور أُوپرا ومسارح كبرى لدى معظم المدن والعواصم.
أَعمال موسيقية بتوقيع نساء
مع افتتاح الموسم الموسيقي الجديد هذا العام ظاهرةٌ لافتة: صدور أَعمال مطبوعة لمبدعات موسيقيات أَو إِدراج أُخرى على برامج أُوركسترالية لعزفها في عروض الأُمسيات المقبلة هذا العام.
فيما عازفة الپيانو الفرنسية ماري كاترين جيرود (مولودة 1949) أَصدرَت لدى منشورات “ميرار للموسيقى” عملَها الجديد “نظراتٌ نسائية”: أُنطولوجيا مقطوعاتٍ للپيانو من 17 مؤَلِّفة موسيقية، بينهنَّ شهيرات (كلارا شومان، فاني مِندلسون، ليلي بولانجيه، …) وبينهنَّ أَقلُّ شهرةً (جانّ باربِــيُّـون، هنريات بُوسْـمانس،…)، أَصدرت قائدةُ الأُوركسترا لورنس إِيكيلباي (مولودة 1962) الجزء الأَول من المجموعة الكاملة لسمفونيات لويز فارِنْك (1804-1875).
ولدى منشورات “روبير لافون” (پاريس) صدَر قبل أُسبوعين كتاب “السمفونيا المنسيَّة – سيرة ومسيرة شارلوت سُوهي” (1887-1955). وفي أَواخر هذا الشهر (تشرين الأَول/أُكتوبر) تتهيَّأُ “أَركال” (مؤَسسة فرنسية تعنى بإِحياء التراث الأُوپرا) لتقديم النسخة الفرنسية من أُوپرا “تاليسْتْري ملِكَة الأَمازون” تأْليف ماريا أَنطونيا ڤالپورجيس أَميرة باڤاريا (1724-1780) وهي من أَندر الأَعمال الأُوپرالية بتوقيع امرأَة في القرن الثامن عشر.
قبل أَيام في مهرجان “سابليه سُور سارَت” (للموسيقى الباروكية) شاهد رواده “العباقرة” (أَو “أَطباع الحُب”) لــ”الآنسة دوڤال” (1718-1775) صاحبة ثاني أُوپرا في القرن الثامن عشر تُقَدَّم في صالة “أُوپرا پاريس” (تأَسست سنة 1669).
معهد ومؤْتمر خاص للمؤَلِّفات الموسيقيات
مؤَسسة “فيلارمونيا پاريس” الثقافية (تأَسسَت سنة 2015 وترعاها وزارة الثقافة) أَنشأَت معهد “مؤَلِّفات موسيقيات من القرن الثاني عشر حتى أَيامنا”، وأَعلنَت عن سلسلة من 12 محاضرة “لإِسماع صوت المبدعات المخنوقات بغبار التاريخ”. افتتحها “المسرح الوطني للأُوپرا كوميك” (تأَسس في پاريس سنة 1714 على عهد الملك لويس الرابع عشر) بتنظيمه مؤْتمرًا ليومين (22 و23 أَيلول/ سپتمبر الماضي) حول هذه السلسة من المحاضرات.
الباحثة الموسيقية رافاييلَّا لوغران (أُستاذة علوم الموسيقى في جامعة السوربون) افتتَحت محاضرات “الفيلارمونيا” وشاركت في مؤْتمر “الأُوپرا كوميك”، وأَشارت إِلى أَن حركة “أَنا أَيضًا” النسائية الناشطة (تأَسست سنة 2007) تطالبُها منذ فترة طويلة ببرمجة أَعمال موسيقية وأُوبرالية لمؤَلِّفات منسيَّات. وهذا ما أَكَّدتْه قائدةُ الأُوركسترا لورنس إِيكيلباي في افتتاح المؤْتمر: “جميع مبرمجي الدعوات التي أَتلقَّاها للقيادة في الخارج، خصوصًا في إِسپانيا أَو في بريطانيا بدعوة من مؤَسسة “بي بي سي”، يطلبون مني أَعمالًا لمؤلِّفات كلاسيكيات”. وكانت إِيكيلباي، الصيف الماضي، قادت الأُوركسترا في اسطنبول في برنامجٍ كلُّهُ لمقطوعات من تأْليف نساء. وكانت “سعيدة بذلك لإِخراج المرأَة المؤَلِّفة من الغيتو الذكوري”. لذا غالبًا ما كانت تمزج في برنامجها أَعمالًا لمؤَلفين ومؤَلِّفات معًا، كما في أَمسية من أَعمال بيتهوڤن أَدخلَت سمفونيا من لويز فارِنْك. وكان ذلك خروجًا عن المأْلوف وتحديًّا للفنانين والمبرمجين أَن يكتشفوا أَعمال المؤلِّفات. صحيح أَنْ كانت تظهر محاولات شبيهة منذ القرن التاسع عشر، لكنها بقيَت خجولة محصورة في مقالات باحثين قلائل، إِنما تلك المحاولات لم تنل حقها لأَنها ظهرت وسط مجتمع كان فيه تاريخ الموسيقى “يَكتَب بالمذكَّر”. على أَن التغيير بدأَ يتحقَّق منذ السبعينات الماضية، وخصوصًا في السنوات العشر الأَخيرة من القرن الحالي.
حلقات دراسية للمؤَلِّفات الموسيقيات
كشفَت إِيكيلباي أَنها، بعد نيل شهادة الدكتوراه من السوربون وبدْئِها التدريس، أَنشأَت حلقة أَبحاث حول المؤلِّفات الموسيقيات. بدأَ صفُّها في السنة الأُولى بخمس طالبات أَجنبيات، ثم أخذ العدد يتزايد عامًا بعد عام، لأَن المؤَلَّفات الموسيقية النسائية مادةٌ بكْرٌ ما زالت تنتظر الاكتشاف، وعالم البحث الموسيقي مهيَّأٌ لذلك فثمة أَعمال كثيرة غيرُ مكتَشَفة بعد. وفيما كانت ماري كاترين جيرود هيَّأَت للتسجيل ثماني مقطوعات نسائية للپيانو وإِصدارها لدى منشورات ميرار، ثم بلغت الأَعمال المكتَشَفَة 17 مقطوعة، ظهرت بعدها أَعمال أُخرى تنتظر التسجيل. ويؤَكد رينه ناترتان مدير منشورات ميرار: “هذه ليست سوى بداية سلسلة نسائية (كما أَعمال فارِنْكْ الكاملة)، ومنذ اهتممتُ بالموضوع تجمَّع لديَّ نحو 1500 اسم”. وتقول فلورنس لوناي (الاختصاصية في موسيقى القرن التاسع عشر) أَن لديها نحو 1000 بطاقة، ولا تزال تكتشف أَسماء أُخرى من القرنين السابع عشر والثامن عشر. تلك المؤلِّفات كُنَّ مقدَّراتٍ في عصرهن من معاصرينهنّ المؤَلِّفين لكنهنَّ لاحقًا غرقْن في النسيان لأَنهنَّ بقِين في عصرهنَّ خارج اهتمام المؤَسسات التي تدَّعي كونها “حارسة الذاكرة”. ذلك أَن معظمَهنَّ (خصوصًا في إِيطاليا القرنين السابع والثامن عشر) كنَّ راهبات أَو مترهِّبات. وحدها خرجت عن السياق مارَّيا أَنطونيا ڤالپورجيس أَميرة باڤاريا لأَنها كانت ذات سلطة، وبرعَت في التأْليف والرسم والغناء وكتابة نصوص الأُوپرا والعزف على القيثارة، فشكَّلت في عصرها شهرة واسعة. وكذلك اشتهرت، بعد قرن لاحق، لويز فارِنْكْ بعد قرن: ففيما الرجال عصرئذٍ لم يكونوا يتصوَّرون زوجتَهم أَو شقيقتَهم تحترف الموسيقى وتقدِّمها في مكان عام، تلقَّت لويز من زوجها دعمًا قويًّا وكان عازف ناي ومؤَلِّفًا وناشر موسيقى. ولولاه لما كان لها أَن تبلغ هذا المكان العالي في عالم التأْليف السمفونيّ.
تلك الظاهرة القسرية حثَّت الصحافية پولين سومليه على وضْعها سيرة ومسيرة شارلوت سوهي التي عاشت حياةً رومنطيقية ولاقت محاربة عدائية في عصرها لكنها كانت صلبة في مثابرتها الإِبداعية. فالعمل الموسيقي ليس ماديًّا كاللوحة أَو كالكتاب، لذا يغرق في النسيان إِن لم يجِد مَن يعزفه.
هكذا أَخذت تظهر إِلى النور تباعًا من القرون الماضية أَعمالُ مبدعاتٍ موسيقيات، في طليعتهنَّ ماريا أَنطونيا فالپورجيس أَميرة باڤاريا، وشارلوت سُوهي، و”الآنسة دوڤال” وجان باربيُّون.
وسوف أَتناولُهُنَّ، سيرةً وأَعمالًا، واحدةً فواحدة تباعًا في مقالاتي المقبلة.
كلام الصور:
- “نظرات نسائية”: 17 مقطوعة پيانو لمؤَلِّفات موسيقيات
- “السمفونيا المنسيَّة” سيرة ومسيرة شارلوت سُوهي
- ماري كاترين جيرود: الإِنقاذ من النسيان
- لورنس إِيكيلباي قائدَة أُوركسترا لأَعمال نسائية
- رافاييلَّا لوغران: أَبحاث موسيقية لمؤَلِّفات مبدعات
- حركة “أَنا أَيضًا” النسائية تنتصر للمرأَة مؤَلِّفَةً موسيقية