هنري زغيب
في الجزء الأَول من هذا المقال، قدَّمتُ لاحتفاء فرنسا هذه السنة بالمئوية الأُولى لوفاة عبقريِّها الخالد مرسيل بروست (1922-2022). وتحدثتُ عن كتُب كثيرة صدرَت عنه هذه السنة مواكِبةً حدَثَ المئوية، بينها كتاب لور هيلُّرين Hillerin “بحثًا عن سِلِسْتْ أَلباريه” Albaret رفيقة بروست آخرَ 8 سنوات من حياته.
في هذا الجزء الثاني أَعرض مقاطع من هذا الكتاب تضيء على شخصية سِلِسْتْ.
ذاتُ القلب الكبير
في تعريف الكتاب (عنوانًا ثانويًّا) أَنه “معلومات غير منشورة عن حبيسة مرسيل بروست”. والحبيسة هنا (أَو الأَسيرة) ليست بالمعنى السلبي بل الإِيجابي جدًّا لأَن سِلِسْتْ تنَسَّكت في خدمة الكاتب ليلًا نهارًا في ظاهرة عالية الوفاء. من هنا ارتبط اسمُها باسمه، هو الذي كان يسمِّيها “صديقتي النهائية” والتي باح لها يومًا: “بدونكِ لم يعُد يمكنني أَن أكتب”. وفعلًا: منذ دخولها في خدمته (تموز/يوليو 1914) لم تغادره يومًا واحدًا إلى أَن أَنهكه المرض وانطفأَ عن 51 سنة (18 تشرين الثاني/نوفمبر 1922) فأَغمضت عينيه للمرة الأَخيرة. بعدذاك، رفعتْها الأُسطورة الأَدبية أَنها “الخادمة ذاتُ القلب الكبير”. لكن شخصيتَها الفريدة، موحِيةً ومُلْهِمَةً، لم تظهر على ما هي إِلَّا من هذا الكتاب نسجَتْه لور هيلُّران بما عُرِف عنها من دقةٍ تفصيلية في كتابتها السِيَرَ الشخصية.
اللقاء الحاسم
ساقَ القدر ذات يومٍ تلك الشابة الجميلة (23 سنة) إِلى ذاك الكاتب الشاب (43 سنة) فكان لقاؤُهما حاسمًا منذ ساعاته الأُولى. اتَّحدا في فضاء واحد لن يتغيَّر فيه شيْء: كانت خادمته ومدبِّرة منزله وسكرتيرته وكاتمة أَسراره ورفيقته اليومية، حتى أَنها، بعد أَسابيع على وفاته، بقيَت ذاهلة مصدومة بين أَفراد أُسرتها وأَصدقائها، غير قادرة على التأَقْلُم للعودة بدونه إِلى الحياة الطبيعية. ومن يومها اشتهرت بأَنها “الشاهدة” في نظر مُحبي بروست ومتابعي سيرته ومسيرته.
نجحت الكاتبة في الدخول إِلى محفوظات سِلِسْتْ وذكرياتها ورسائل الكاتب الشخصية، فنسَجَت منها حصيلةً دقيقة وممتعة: استعادت مسيرة سِلِسْتْ يومًا فيومًا مع بروست، وخصوصًا تذكاراتها وهو يكتب يوميًّا رائعته الخالدة “بحثًا عن الزمن الضائع” أَطول رواية في التاريخ. من هنا أَن سِلِسْتْ كانت له أُختًا وأُمًّا وصديقةً يمكنُه في أَيِّ وقت من الليل والنهار أَن يناديها ويسأَلها ويطلب منها، وهو ما شكَّل بينهما من عاطفة وحنان.
حوله دائمًا
درس الكثيرون من النقاد ظاهرة أَنَّ بروست راح يكتب بزخم أَكثر، صفحات أَساسية من روايته الطويلة، منذ دخلَت سِلِسْتْ إِلى حياته وبيته في صيف 1914 (قبل أَشهر من انفجار الحرب العالمية الأُولى)، وراح يكْملها ويتعمَّق بها توسيعًا وتفصيلًا طوال السنوات الثماني الأَخيرة من حياته، وهي حوله وأَمامه وإِلى جانبه في خدمته، حتى لكأَنها “الملاك الحارس” لهذا الأَثر الأَدبي الفريد في تاريخ الأَدب الفرنسي. ويركِّز النقاد على أَهمية سِلِسْتْ في حياته: سهرَت عليه ومعه، ساعدَته في أُمور كثيرة، أَصغت إِليه قارئًا ومحدِّثًا، بحنان زوجة متنسِّكة لرَجُلِها، منصرفة كليًّا إِليه، حانية كوالدة، راعية كحاضنة رؤُوم. من هنا قولها في الكتاب: “جرى لي أَن تغيرَت حياتي عن كل ما كان لي قبل أَن أَعرفَه”.
ومن العناية أَيضًا أَن يكون زوجها أُوديلون (تزوجتْه في 28 آذار/مارس 1913 أَي قبل سنة واحدة من دخولها في حياة بروست) فكان سائقه الخاص داخل باريس كما حين ينتقل إِلى كابور (منطقة النورماندي – 218 كلم عن باريس). وكانت تصفه بــ”السيد الرائع”، وهو سرعان ما اكتشف مزاياها منذ الأَيام الأُولى في خدمته. وأُولى تلك المزايا: الصبر على جميع طلباته ببسمة دائمة ورضى فوق الوصف أَيًّا يكن طلبه، ما جعلها مع الأَيام حاجة وحيدة لحياته اليومية، لا يطيق بُعادها ولا يستغني عن صوتها وحضورها ولا حتى ساعة واحدة.
“هي حاجتي الأَدبية”
هكذا باتا لا ينفصلان ولا يتباعدان. ومعًا عاشا سنوات الحرب الصعبة، وسنوات التأْليف المنهِكَة التي تتطلَّب أَعلى درجات الاهتمام والامِّحاء والتضحيات في رفقة كاتب كبير. وهذا ما يفسِّر قولَه (كما ذكَرت في ذكرياتها): “من قوة حضورها في حياتي باتت حاجة أَدبية لي بحسها وحدسها وبما يجعلها، بذكائها الفطري العفوي، أَقرب إِلى قلبي من كل مَن حولي من الأَذكياء”.
مع الأَيام باتت هي صوته وصداه، تحميه من الزوَّار الطارئين، وتنقل أَفكاره إِلى مَن يَجب، فكأَنها حارسته وسفيرته وحاميته وراعيته، حتى لتكاد تكون شريكة له في بعض صفحات التأْليف. وهي ساعدَتْه في ترتيب أَوراقه وتنظيمها وتنسيقها، بما لديها من مهارة في وضع العلامات على المخطوطة، وفي ترميز بعض الصفحات للعودة إِليها، وهو ما لم يكُن في وسعه أَن يفعلَه. من هنا قوله: “تلك الطريقة البارعة من سِلِسْلْت سهَّلَت عليَّ الرجوع بسهولة إِلى أَيِّ صفحة أُريد من مخطوطتي الضخمة”.
وتبوح سِلِسْتْ كم كانت فخورة بذلك: “كان يَحرص على الإِشارة إِلى عمَّال المطبعة أَن يتْبعوا ملاحظاتي ورموزي على الصفحات، كي لا يضيعوا بين صفحة وأُخرى من آلاف صفحات مخطوطته، ما كان سيحصل لو ترَكَ لهم مخطوطته كما كتبها، بفوضى صفحاتها وعدَم ترقيمه بعضَ الصفحات، فكنتُ أَضعها بالتسلسل التأْليفي الذي كان هو أَعجز من أَن يتابعه”.
الصدمة الكبرى
يوم أَغمضَت عينيه على فراش الموت، أَصابتها صدمة طويلة مُرَّة، رافضةً فكرة أَنه غاب ولن يعود، ولن تسمع صوته، ولن تقرأَ مخطوطته، ولن تلبِّي طلباته.
كلُّ هذا كانتْه سِلِسْتْ بكل تقوى وانحناء لذكرى الكاتب الكبير، شهادة منها لمن غيَّر حياتها إِذ غيَّرت حياته، خاتمةً اعترافاتها بقولها: “كانت الكتابة نبْضه اليومي بلا انقطاع. وكنت أَنا حَدَّه كأَنه ولدي، أَحضنُه، أَغمُره بكلِّ ما يحتاجه، بكل صمت ورضى، وبكل ما أَستطيع أَن أُقدِّم له بكل طاعة واحترام. في أَيامه الأَخيرة كنتُ أَتأَلَّم معه إِذ أَراه يتوجَّع، ومع ذلك كان يكابر على آلامه الهائلة ويواصل الكتابة لا ينقطع عنها يومًا واحدًا وهو طريح الفراش، وأَنا حدَّه مجروحةٌ بصمتٍ عند أَقدام السرير”.
وختامًا هذا السؤَال: في رواية بروست الطويلة، أَلا تكون شخصية “أَلبرتين” مرآةً لشخصية سِلِسْتْ “أَلباريه”؟
كلام الصُوَر
- سِلِسْتْ ومرسيل: حكاية حب ولا حُب
- بروست مريضًا يكتب في سريره
2 . بروست في أَيامه الأَخيرة قبل المرض
- بروست على سرير الموت: الإِغماضة الأَخيرة
- ضريح بروست (1871-1922)