النهار العربي
هنري زغيب
ذكرتُ في الجزء الأَول من هذا المقال (“النهار العربي” – الثلثاء 19 الجاري) أَنّ الفنون (الموسيقى، المسرح، الشعر، الأُوﭘـرا، الكوريغرافيا، الرسم، النحت، السينما،…) كثيرًا ما نهلَت من الأَساطير الميثولوجية اقتباسَ أَعمالٍ ساطعة في التاريخ، خَلَدَت وخلَّدَت معها الأُسطورة.
هكذا أُسطورة الحب الغريب “ﭘـيغماليون وغالاتِيا”، في تعدُّد الاقتباسات، تناولها كتَّاب ورسامون ونحاتون ومسرحيون وسينمائيون فأَخرجوا منها روائع خالدة.
في الشعر
أَبدأُ من عُمق التاريخ، من الشاعر الروماني أُوڤـيد (43 ق.م. – 17 م.) في كتابه “التحوُّلات” (قصيدة طويلة من 15 جزءًا في 12 أَلف بيت شعر مستوحاة من الميثولوجياتين اليونانية والرومانية). في الجزء العاشر (652 بيتًا) يورد أَن ﭘـيغماليون، بعدما اكتشف أَن نساء مدينته القبرصية آماثوس (اليوم 40 كلم غربي لارنكا) لسْنَ صالحات، عزف عن إِيمانه بالمرأَة، وراح ينحت تمثال حسناء جميلة وَفْق خياله، سماها غالاتِيا. ويومَ عيد إِلهة الحب واللذة أَفروديت (ڤـينوس في الميثولوجيا الرومانية وعشتروت في الميثولوجيا الفينيقية) دخل ﭘـيغماليون معبدها، قدَّم أُضحيته، وتمنى منها امرأَة حقيقية تكون بجمال تمثاله غالاتِيا. وحين عاد إِلى محترفه وقبَّل التمثال (كعادته كلما خرج من المحترف وعاد إليه) أَحس بحرارةٍ بشَرية في العاج البارد، وبالتمثال يتحرَّك ويتحوَّل امرأَة حقيقية، فوعى أَن عشتروت استجابت دعاءه. وفي نص أُوڤـيد أَن ﭘـيغماليون تزوَّج من غالاتِيا ووَلدت له ابنة سمَّياها ﭘـافوس. وحتى اليوم لا يزال هذا اسم المدينة القبرصية السياحية (نحو 50 كلم غربي ليماسول)، ولا تزال فيها آثار قديمة لمعبد أَفروديت، وهي على لائحة اليونسكو للتراث العالمي.
في الرسم والنحت
ودخلَت هذه الأُسطورة في النحت، فتناولها أُوغُست رودان (1840-1917) وأَخرج منها سنة 1909 تمثالًا جميلًا بالرخام الأَبيض يتميز بـغالاتِيا طالعة من مساحة غير مشغولة ولا مصقولة، وبنحت ﭘـيغماليون جاثيًا أَمامها منسحرًا بها، ملتحيًا كما نحَّاتُه، ويرى باحثون أن رودان نحته هكذا يشبهه لأَنه كان يعتبر أنه “ﭘـيغماليون العصر الحديث”، خصوصًا بعدما ذاعت قصة حبَّه وكميليا كلوديل. والتمثال اليوم هو بين 6 تماثيل في القسم الخاص برودان من متحف متروﭘـوليتان (نيويورك).
وتناول الأُسطورة الرسام الفرنسي جان ليون جيروم (1824-1904) في أَكثر من تمثال ولوحة بين 1890 و1892، مستندًا إِلى ما جاء عنها في قصيدة أُوڤـيد، مركِّزًا على لحظة الدهشة التي تحوَّلت فيها غالاتِيا من تمثال عاج إِلى امرأَة حقيقية.
وكذلك الرسام البريطاني إِدوارد بورن جونز (1833-1898) وضع للأُسطورة سلسلتين من اللوحات. الأُولى بين 1868 و1870 من أَربع لوحات، والأُخرى بين 1875 و1878 وفيها أَيضًا أَربع لوحات أخرى في أربع مراحل من دهشة ﭘـيغماليون أَمام تمثاله “المتأَنسن”، عناوينها: “رغبات القلب”، “ارتداع اليد”، “نيران الشهوة”، “ذروة الروح”. وهي من أَروع الأَعمال التشكيلية الخالدة لأُسطورة ﭘـيغماليون وغالاتِيا (موجودة حاليًّا في متحف برمنغهام).
وكان تولَّاها أَيضًا (بين كثيرين من الرسامين والنحاتين في العالم) الرسام الفرنسي لويس جان فرنسوا لاغْرُنيه (1724- 1805) في عدد من اللوحات، أبرزها نسخة 1781 (حاليًّا لدى متحف الفنون في ديتْرُوْيت).
في المسرح
في الأَدب تناول الأُسطورةَ الكاتبُ الإِيرلندي جورج برنارد شو (1856-1950) وصاغ منها مسرحيته الشهيرة “ﭘـيغماليون” (من خمسة فصول) سنة 1912 ظهرت على المسرح للمرة الأُولى في لندن سنة 1913، وحوَّل فيها الكاتب شخصية ﭘـيغماليون من نحات إِلى أُستاذ لغة (هنري هيغِنْزْ)، وغالاتِيا إِلى بائعة زهور (إِليزا دُولِتْلْ). وراجت المسرحية بسرعة، وتمت ترجمتُها إِلى لغات عدَّة وظهرت على مسارح ڤـيينا ولندن ونيويورك، وهي أَكثر مسرحيات برنارد شو شعبيةً.
وتطورَت شهرة المسرحية حين تحولت عمَلًا غنائيًّا استعراضيًّا أَميركيًّا سنة 1956 بعنوان “سيدتي الجميلة”، شهدها مسرح مارك هيلينْغِر في برودواي، بطولة ريكْس هاريسون وجولي إِندرُز، ولاقت نجاحًا مذهلًا إِذ استمرت من 15 آذار (مارس) 1956 حتى 29 أَيلول (سـﭙـتمبر) 1962 مسجِّلةً 2717 عرضًا، ما كان فترتئذٍ رقمًا قياسيًّا غير مسبوق في عدد العروض.
ومن الخشبة إِلى الشاشة: بعد نجاحها المسرحي المذهل في برودواي، تحوَّلت المسرحية سنة 1964 فيلمًا سينمائيًّا بالعنوان ذاته “سيدتي الجميلة”، إِخراج جورج كيوكر وبطولة ريكْس هاريسون وأُودري هيـﭙـبـورن، فلاقى الفيلم نجاحًا كبيرًا كذلك، ونال عامئذٍ 8 جوائز أُوسكار (منها: أَفضل تصوير، أَفضل ممثل، أَفضل مخرج)، وسنة 1998 سمَّته “مؤَسسة السينما الأَميركية” (لوس إِنجلس) “بين أَفضل 100 فيلم خالد في تاريخ السينما العالمية”، وسمَّته سنة 2006 “ثامن أَفضل عمل سينمائي غنائي”، وسنة 2018 دخل “لائحة السينما الوطنية الأَميركية” لدى مكتبة الكونغرس (واشنطن)، على أَنه “ذو مضمون ثقافي تاريخي وجمالي”.
في مصر ولبنان
في الأَدب العربي عرفت هذه الأُسطورة طريقَها إِلى مصر، حين تناولها الكاتب توفيق الحكيم (1897-1987) في مسرحيته “ﭘـيغماليون”، جاعلًا أَحداثها مكانيًّا في بيت ﭘـيغماليون وزمانيًّا ليلة عيد الإِلهة ڤـينوس. صدَرت كتابًا سنة 1942، ولم يتم تنفيذها إِلَّا سنة 1964 على خشبة المسرح القومي في القاهرة.
ولا أَختم قبل أَن أَذكر أَن لبنان أَيضًا عرف هذه الأُسطورة في اقتباس مسرحي غنائي جميل من فصلين بعنوان “بنت الجبل”، حقَّقه روميو لحود (كتابةً وتلحينًا وإِخراجًا) على خشبة مسرحِهِ “الإِليزيه” (الأَشرفية) سنة 1977 من بطولة سلوى القطريب وأَنطوان كرباج. عرفَت المسرحية نجاحًا شعبيًا واسعًا، وأَعاد روميو لحود نسخة لها ثانيةً لها سنة 2015 مع أَلين لحود (ابنة سلوى القطريب وناهي لحود) وبديع أَبو شقرا على مسرح نايف وماري – المعاملتين.
كلام الصوَر
– صورة عريضة لمقدمة المقال: “ﭘـيغماليون” من وحي قصيدة أُوڤـيد
- ﭘـيغماليون – نسخة لاغْرُنيه (1781)
- نسخة رودان (1909)
- نسخة جونز (1875)
- سيدتي الجميلة – مسرحية برودواي (1956)
- سيدتي الجميلة – الفيلم (1964)
- “ﭘـيغماليون) توفيق الحكيم (1942)
- “بنت الجبل” روميو لحود (1977)