الحب والوفاء… بهاتَين الحالتَين النبيلتَين وضع الزميل عبدالغني طليس كتابه الجديد “أَسرار الكنوز بين الرحباني وفيروز” (دار نلسون – 224 صفحة قطعًا كبيرًا).. وهو استمدَّ من علاقته الطويلة بعاصي ومنصور مادة خصيبة لِمَروياته فقارَبَ نتاجهُما في “رؤْية نقدية” تخلو من المراجع على الطريقة الأَكاديمية لأَن “أَنا” الكاتب نسجَتْ مفاصل السيرة (الشخصية) والمسيرة (المهنية)، وتبنَّت ما كان له معهما، وما سواها في الكتاب يبقى من الشائع العامّ حمَّالِ تأْويلات ومرويات تنتشر من دون تدقيق ووقائع.
هي إِذًا كأَنها سيرة ذاتية صادقة وموضوعية يكتُبها عبدالغني ويخصِّص متْنها لعاصي ومنصور: ما كان له معهما أَو ما تناهى إِليه منهما.. مع ذلك ظلَّ على مسافة عادلة منهما ومن فيروز، فلم يجنَح إِلى مبالغات تبجيلية، ولا حاول بثَّ ما لا يجمُل أَن يقال.. وهنا مصداقيَّته في ما كَتَب.
من تلك المسافة العادلة، مثلًا، فصل “هدى قتيلة البيت الرحباني”، إِذ إِنه رأَى فيها “صوتًا كبيرًا وأَداءً يولِّد إِحساسًا في المستمع لِمَا فيه من الجاذبية”، تجلَّى له ذلك واضحًا في عمَلَي منصور “صيف 840” و”سقراط”، وفيهما سطعَت هدى “تمثيلًا وغناءً وحضورًا”، مستغربًا كيف الأَخَـوَان قبْلًا كانا “رَكَنَا صوتَها في زاوية ضيقة”.
وهو رأَى إِلى زياد الرحباني عبقريًّا غير عادي، “ابن البيت الرحباني وأَول الخارجين عليه”، وآزرَه “في وحدته القاسية وعذابٍ قاساه كما لم يُقاسِهِ إِنسان… كأَنه في التراجيديا الإِغريقية فنانٌ كبير وممتلئٌ حضورًا وذكاءً، مرَّ في أَمَرِّ المآسي الشخصية والصحية والنفسية، وتجاوزَ بالفن الخلَّاق تلك الشبكة العنكبوتية من الآلام والأَحزان”.
وأَحببْتُ لدى عبدالغني تركيزه في فصل خاص على شاعرية عاصي ومنصور فأَطلقها وسيعةً: “لا يمكن مقارنة شعر الأُغنية الرحبانية مع شعرِ أُغنيةٍ آخَر لا في لبنان ولا في العالم العربي”.. معه حق عبدالغني.. عاصي ومنصور في قلْب الشعر العالي، وهما من كبار الشعراء في عصرنا، لكنهما وشَّحا شعرهما بميلوديا رائعة أَخذَت من وهْج الشعر، وأَطلقه صوت فيروز فبقي الضئيل من ذاك الشعر في الذاكرة الجماعية. لذا أَحببتُ جدًّا، عند ذكْره كتابَتَهُما عن الطفولة، إِعلانه بالحبر الجهير: “أَجملُ أَفكار الطفولة بما لا يقاس عن كلِّ ما كُتِب فيها بالمحكية والفصحى وربما بِلُغات العالم كلِّه، هو قولهما: “تعا تَ نتخبَّا من درب الأَعمار.. وإِذا هنِّي كبروا ونحنا بقينا زغار وسأَلونا وين كنتو وليش ما كبرتوا إِنتو؟ منقلُّن نسينا، واللي نادى الناس تَ يكبروا الناس راح ونسي ينادينا”.
وبين ما أَحببتُ خصوصًا في كتابه: رأْيُه في غياب فيروز عن الإِعلام، هي التي “واجهَت في حياتها صدمات تراجيدية أُسَريَّة هائلة، كلُّ واحدة منها كافيةٌ لتَهُدَّ جبلًا.. ولولا أَنها جبارة قولًا وعمَلًا لَمَا استطاعت أَن تقف يومًا لتغنِّي وفي رأْسها أَثقالُ كلِّ تلك الجبال”.. من هنا رأْيُه أَنَّ ابتعاد فيروز عن الإِعلام: “شرَّعَ الأَبوابَ على صناعة ملامح أُسطورية في صورة فيروز، ليكون غيابها الـمُحْكَم تأْكيدًا للأُسطورة ومانحًا شرعيَّتها”.. معه حق عبدالغني: فلْتكُنْ فيروز بعيدةً عن اليوميات العادية البليدة، ولْتَبْقَ أَيقونتنا الوحيدة في “معبد يُزارُ ويُلمَسُ من شاسِعِ” (قصيدة سعيد عقل “أُحبُّكِ في ذلة الراكعِ” من “رندلى”-1950).
هذه ليسىت قراءةً في كتاب عبدالغني طليس.. إِنها إِطلالة بسيطة على بضعة ملامح من كتابه الزاخر بـ”كنوز” كثيرة من الثلاثي الرائع عاصي ومنصور وفيروز، قارَبَه بـ”رؤْية نقدية” عادلة فلَم يُميِّز بين عاصي ومنصور، وكلاهما في مرتبة واحدة من صداقته معهما، ووشَّح جميع صفحات كتابه بالحالتَين النبيلَتَين: الحب والوفاء.. وما سوى بهما يجب أَن نقارب الإِرث الرحباني وفيروزَتَهُ الخالدة، حتى نكون جديرين بهذا الإِرث التي بات عنوانًا رديفًا لِلُبنان الخالد.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com