هنري زغيب
له على الدراسات الجبرانية فضلُ أَنه كرَّس جُلَّ أَعماله لكشف عبقرية جبران تأْليفًا وترجمةً واختياراتٍ وإِعدادَ لقاءاتٍ دُوَليةٍ عنه في جامعة ميريلند التي كان يدير فيها كرسيَّ جبران، البرنامجَ الوحيد المخصص للدراسات الجبرانية في العالم. هكذا يجدر الوفاء للباحث المفرد البروفسور سهيل بُشروئي (1929-2015).
تعود بي الذكرى 22 سنة إِلى الأَمس، وهو في عز إِعداده لأَوَّل مؤْتمر دُوَلي جامع عن جبران.
يومها، لا على عصاه كان متَّكِئًا بل على رؤْياه طالعةً من سَبعينِه الفتيَّة، وهو يستقبلُنا تباعًا في جامعة ميريلِند (9 كانون الأَوَّل/ديسمبر1999) إِلى “المؤْتمر الدُوَلي الأَوَّل للدراسات الجبرانية”، باكورةِ برنامج “كرسيّ جبران للقِـيَم والسلام”، وكان يديره في تلك الجامعة الكبرى لاستقطاب أَبحاثٍ ودراساتٍ ومؤَلّفاتٍ عن جبران الذي وُلِدَ يومًا في بشَــرّي وما زال يولدُ كلَّ يومٍ في “بشَــرّي ما” من هذا العالم.
يومها كانت على وجهه غبطةُ أَن يَستقطبَ المؤْتمر باحثِين من الشرق والغرب، يَنتدون عن “جبران شاعر ثقافة السَلام” طيلةَ أَيامٍ أَربعةٍ توزَّعَت عليها 15 جلسةً أَكاديمية وشعرية وأَدبية وفنية عن جبران أَو من جبران أَو مُقارباتٌ شخصيةٌ وأَدبيةٌ وتشكيلية.
خلتُه اكتفى بتلك الغبطة، لكنَّه لَـمْ.
فكرة الاتحاد العالمي وإِنشاؤُه
عشيةَ سفَري عائدًا من ميريلِند إِلى بيروت، فاجأَني باجتماعٍ “طارئ” ليُطْلِعني على مشروعٍ جديدٍ في باله: “ما رأْيُك، بعد نجاح هذا المؤْتمر الأَوَّل، لو نعمل على إِنشاء “اتحاد عالمي للدراسات الجبرانية”، كي لا ينتهي الأَمرُ فقط مع انطواء هذا المؤْتمر. هكذا يتابعُ الاتحاد دراساتٍ عن جبران تَصدُر في كل العالم، أَتَــتَــبَّـعُـها أَنا في الولايات المتّحدة والغَرب، وتُـتابعها أَنتَ في لبنان والمشرق”؟
“ما رأْيي”؟ وهل أَملِك أَن أَرفضَ أُفقًا بهذا الطموح؟
عُدتُ إِلى بيروت ولم أَعُد من ذلك المشروع. ورُحنا نُعِدُّ معًا لتأْسيس “الاتحاد الدُوَليّ للدراسات الجبرانية”. ولم تنقطعْ مراسلاتُنا والاتصالات حتى أَعلَنَّاه رسميًا في 10 نيسان/أَپريل 2006، نهار الذكرى الخامسة والسبعين لغياب جبران (10 نيسان/أَپريل1931). ورحنا نُـهَـيِّـئُ حدَثًا يَليقُ بـ”الاتحاد” حتى نَجحنا في إِعداد المؤْتمر الدُوَلي الثاني (3 أَيار/مايو 2012) تعاوُنًا مثمرًا وخَـيِّرًا مع “لجنة جبران الوطنية”، وجعلْنا موضوعه “قراءَة جبران في عصر النزاعات والعولَـمَة” استقطبَ هو الآخَـر باحثين من الشرق والغرب إِلى جامعة ميريلِند.
الريحاني وجبران…
مرةً أُخرى، كما سابقتُها: عشيةَ سفري عائدًا من ميريلِند إِلى بيروت، رحنا نَمشي معًا في ممرّات الجامعة، وراح يبُثّ غبطَته لنجاح المؤْتمر الثاني وإِطلاق “الاتحاد”، مُردِفًا أَنه شعاعُ نورٍ جديدٍ للُبنان، ومُردِّدًا أَنه لا يفصل عبقرية جبران عن عبقرية لبنانَ مُبدعِ المبدعين.
مع جبران كان يَنْهَدُ دومًا إِلى أَمين الريحاني. وله فيه، كما لجبران، كتاباتٌ ومحاضراتٌ ودراسات وندوات أَنشأَها، أَو شارك فيها، بين الولايات المتحدة وبريطانيا، أَظهر بها ريادةَ الريحاني طليعيًا سابقَ عصره غَربًا، وحاملَ إِرث الشرق في رؤْياه. ولم يكُن مرةً يفصِل الريحاني عن لبنان في شغَف رؤْيته لبنانَ ضئيلَ المساحة جليلَ الإِبداع بأَصوات أَبنائه العباقرة وِسْعَ آفاق الدنيا.
وحين أَسّس في واشنطن مع الشاعرة مي الريحاني منظَّمة “من أَجل لبنان”، وَدَعَوَاني إِلى إِطلاقها (18 أَيار/مايو 2007) ركَّز في كلمته على أَثَر جبران والريحاني الطالعَين من لبنان. ولَفَتَني في تلك الأُمسية، بعد ندوة الإِطلاق وانتقالِنا إِلى العشاء، أَنَّ طاولاتٍ ثمانيَ وعشرين توزَّعَت في الصالة الكبرى لم تكُن تحمل أَرقامًا (كما عادةُ الولائم المنظَّمة) بل كانت تحمل ثمانيةً وعشرين اسمًا لـمُبدعين لبنانيين أَدَبًا وشعرًا وفكرًا وفنونًا، فكان لبنانُ حاضرًا حولنا بأَسماء مبدعيه.
… ومي زيادة في قلبه
هذا رجلٌ كان مسكونًا بتراث لبنان. حين اتصلتُ به سنة 1999، وكانت بيروتُ عامَئذٍ “عاصمةَ الثقافة في العالم العربي”، أَدعوه إِلى مشاركتِنا في مؤْتمر دُوَلي عن ميّ زيادة، جاء إِلى لبنان فَرِحًا مرَّتين: أُولى أَن يستعيد سنواتِه في لبنان ردْحًا مُثمرًا من حياته، والأُخرى أَن يَنتدي عن ميّ التي لم يَـمرَّ اسمُها في مداخلته إِلا مترافقًا مع عبقرية لبنان الذي أَطلع ميّ نابغةً لبنانيةً في مصر. يومَها، سجَّلَ المؤْتمرُ حضورَ ثلاثة من أَركانه لم يُولَدوا في لبنان لكنهم عاشوا فيه وأَنتجوا فيه وانتَمَوا إِليه عِشقًا ومواطَنَةً: سَلمى الحفَّار الكُزبَري، نقولا زيادة، وسهيل بشروئي.
هكذا كان هذا الرجلُ عاشقَ لبنان: من جبران والريحاني انطلَق، يَـنشُر إِرثَهُما ترجمةً وتأْليفًا وأَبحاثًا، وفي عناوين أَبحاثه دومًا أَنهما جُزءٌ نَـــيِّـــرٌ من عبقرية لبنان.
في قلبه كان دائمًا لبنان. وفي عقله دائمًا كان الريحاني وجبران ونعيمة ومي زيادة.
جبران رسالة لبنان إلى العالم
في ربيع 2015 اتصَلَ بي كي نُصدر معًا نصًّا، بالإِنكليزية والعربية، أَعددناه بعد مداولات عدة ومناقشات، عَنوَنَّاه “ديمومةُ لبنان: حوارُهُ مع الغرب” أَبرزْنا فيه دورَ لبنان في بيئته الشرقية واقتبالَه الغربَ محاوِرًا، كي يظلَّ لبنانُ أَرضَ اللقاء ومنتدى الثقافات، الـموئلَ الطليعيّ للحضارات، مُتعدِّدَ الفروع موحَّدَ الجِذع وحْدَويَّ الجَذْر إِلى عمق الإِيمان بإِله واحدٍ ربِّ العالمين.
اقترح عليَّ بِـحماسةٍ طوباويةٍ أَنْ نُصدِرَ النصَّ يوم ذكرى استقلال لبنان عامئذٍ (22 تشرين الثاني/نوڤمبر) فيكونَ رسالةَ سلامٍ إِلى العالم من لبنانَ السلام. سوى أَنّ السلامَ الأَبَديَّ أَخذَه (2 أَيلول/سپتمبر 2015) قبل أَسابيع من ذكرى الاستقلال، فلم نُطلِق معًا نصَّ رسالةِ لبنانَ السلام.
لكنني، وفاءً له، نَشرتُهُ لاحقًا في سياق المؤْتمر الدولي الثالث: “جبران رسالة لبنان إِلى العالم” (الجامعة اللبنانية الأميركية LAU- بيروت، كانون الثاني/يناير 2018)، فكانت تلك تحيَّتي إِلى ذكراه، بنشْر آخِر ما سَطَّره، بقلبِه اللبنانـيّ الكبير، البروفسور سهيل بشروئي.
كلام الصُور:
- الصورة الرئيسة: سهيل بُشروئي وهنري زغيب يوم إِطلاق “الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية” (جامعة ميريلِند – نيسان/أَپريل 2006)
- ديمومةُ لبنان في كتابات الريحاني وجبران ونعيمة
- كتابُهُ الأَشهر: بيوغرافيا عن جبران الرجل والشاعر
- “جواهر من جبران”، اختارها وقدَّم لها بأَضواء جديدة
- خُلُود جبران كان في رأْس اهتماماته
- إِضاءَاته على رسائل جبران إِلى مي زيادة