بعد مقالي الإِذاعي صباح الأَحد، أَو مقالي الكتابي صباح السبت في “النهار”، وفيهما مواقفي الوطنيةُ المتتالية، غالبًا ما أَتلقَّى اتصالاتٍ أَو رسائلَ نَصِّيةً يَجمع بينها التساؤُلُ السائر: “على مَن تقرأُ مزاميرك”؟
أَحترم هذا التساؤُل، لكنني لا أَتبنَّاهُ ولا أَردُّ عليه، مع تفهُّمي دافعَه تَشَاؤُمًا مما يجري أَو يأْسًا من إِمكان ترميم ما يجري. ذلك أَنني، ككاتب، أَحملُ في كلِمتي رسالةً لوطني وأَبناء وطني… وأَيُّ نفْع للكاتب إِن لم يكُن في نصِّه حدْسٌ أَو رسالة؟
قلتُ مرارًا، وكتبتُ تكرارًا، أَنني حين أَذكر لبنان، أَقصِد لبنانَ الوطن لا سُلطةَ لبنانَ التي شوَّهت الدولة. ومن يسأَلونني “على مَن تقرأُ مزاميرك”؟ يقصِدون الدولة وحكَّامَ الدولة المتحكِّمين بالشعب، ولا يقصِدون، حتمًا لا يقصِدون، لبنان الوطن.
وكي لا أُكَرِّرَ ما أَوضحتُهُ مرارًا عن الفرق بين لبنان الوطن ودولة لبنان، أَستشهد بمقطعٍ من الدكتور فيليب سالم في جوابه نهار الأَربعاء هذا الأُسبوع لجريدة “النهار” عن استفتائها “السُلطة أَفشلَت الدولة، أَيُّ صورةٍ أَبقى للوطن؟”. جاء في جواب الدكتور فيليب سالم: “أَحملُ جوازَ سفَر أَميركيًّا لكنَّ هُويتي: لبنان. أَميركا أَغدقَت عليَّ كَرَمَها ورفَعَتْني إِلى العالَم، لكنَّ حقيقتي الكيانيةَ تبقى لبنان، وولائي المطلقَ يبقى للبنانَ الوطن لا للبنانَ الدولة. الوطنُ أَكبر من الدولة: إِنه الشعبُ والأَرضُ والحضارةُ والحضور في العالَم وفي التاريخ”.
هوذا إِذًا كبيرٌ من لبنانَ في العالَم، يُعلن وفاءَه لوطنِ إِقامته الأَميركية، وولاءَه لوطنه الأَول الدائم لبنان. وهي هذه القاعدة الذهبية الوحيدة: الإِيمان بلبنان الوطن الذي، منذ فجر التاريخ، قاومَ وصمَد وبقيَ شامخًا في وجه الرياح. وهنا عبقريتُه الخالدة: تجاوَزَ سياسييه وحكَّامه، الصالحين منهم والخَوَنة، ويواصلُ متوغلًا في وساعة المستقبل.
على مَن أَقرأُ مزاميري؟ أَكيدًا لا على أَولياء هذه الدولة العَوراء (وهُم لا يقرأُون ولا يأْبهون) بل أَقرأُها على أَهل هذا الوطن الخالد الرائع، أَهلِه الطيِّبين العنيدين المقاوِمين جميعَ أَنواع الصعوباتِ القاسية، يَحتملونَها كي يَهدِموا السُلطة التي هدَّمت الدولة، فيَبْنُوا بعدها وطنًا يستاهلُهم ويستحقُّون أَن ينتموا إِليه.
على مَن أَقرأُ مزاميري؟ أَكيدًا لا على المتشائمين النَعَّابين الناعبين، ولا على اليائسين الـمُزنَّرين بالإِحباط، ولا على المستسلمين الخانعين بمقولة: “العين لا تَقاوم الـمِخرَز”. مش صحيح… وبلى: العين تُقاوم الـمِخرَز بالكلمة الساطعة الصارخة الصافعة. الـمِخرَز قد يُطفئُ البُؤْبُؤَ في بعض العيون إِنما لا يُمكنه أَن يُطفئَ البصَرَ في عيون شعبنا الفائق الاحتمال، شعبِنا الحيِّ المكموم المكتوم، لكنه سيخلَع الكمامات القسريةَ وينتفض لأَنه يحب لبنان، ويكفي أَن يُحبَّ لبنان ويُؤْمنَ به كي يتمسَّكَ به ويَقوى على جلَّاديه.
على هؤُلاء أَقرأُ مزاميري. ولَن أَيأَسَ ولن أُسقِطَ الشُعلة من يدي.. وهويةُ الوطن: لبنان اللبناني، ستَبقى شمسيَ التي لا تَغيب… وسيبقى قلَمي عالي النداء، وصوتي عالي الصدَى، إِلى أَنْ تنتصرَ الكلمة، الكلمةُ التي تُقاوم الـمِخرَز حتى ينكسرَ الـمِخرَز وينتصرَ لبنان.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com