… وأَنا داخلٌ حديقةَ شارل قرم، مساءَ الثلثاء الماضي من هذا الأُسبوع، كانت في الجو ناران: الأُولى نارُ الحر الحزيراني الشرس، والأُخرى نار الأَخبار الآتية من الجنوب مُنْذرة بالحرب في أَيِّ لحظة… ساءَلْتُني: أَيُّ جمهور سيأْتي إِلى أُمسية موسيقية بين هاتَين النارَين؟
سوى أَن الخشية راحت تتضاءَل مع تَوَافُد الحضور فُرادى ورفاقًا.. وما أَزفَت ساعةُ الموعد، حتى امتلأَت “قاعة شارل قرم” بجمهور ثقيف جاء يصغي إِلى ما هيَّأَ المؤَلِّف الموسيقيُّ إِيلي برَّاك من وليمة إِبداعية استحضرَت لنا روائعَ أَنماطٍ موسيقيةٍ متنوِّعةٍ مختارةً من باخ وبيزيه وشوستاكوفيتش وموزار وبيتهوفن وبراهمز وغيرشْوِين، إِلى مقطوعات من تأْليف إِيلي برَّاك الذي تناول الميلوديات الكلاسيكية المعروفة وبرعَ في تطعيمها بِـمَذاقات الجاز، أَدخلها أَيضًا في حذاقة عزفية وكتابة ناجحة إِلى مقطوعة “قصقص ورق” من مسرحية “ناس من ورق” للأَخوين رحباني… وهكذا جَمَعَ شرقًا بغرب، وطعَّمَ الكلاسيكي بالجاز في انسيابٍ عالي الاحتراف، وأَثبتَ أَنّ له موهبةً خاصة في وسطنا الموسيقي.
بعد الأُمسية، خرجَ الجمهور إلى حديقة شارل قرم حاملًا أَصداء المقطوعات من القاعة إِلى حوارات تحت الأشجار تُردِّد ما كان في الأُمسية من مناخ آخر لا يشبه مناخ المدينة المهدَّدَة بأَخبار الحرب.
هكذا إذًا: في شعبنا متنوِّرُون مثقَّفون راقُون، لا يُحبِطهم تصريحُ سياسيٍّ ناعب، ولا يأْبهون لأَهل “بيت بو سياسة” الغارقين في وُحُول ما أَوصلوا إِليه البلاد. أَما الآخذون علينا أَننا، بدون توقُّف، نُواصل حياتَنا الفكرية ونشاطاتِنا الثقافية وأُمسياتِنا الموسيقية وعروضَنا المسرحية ومهرجاناتِنا الصيفية ونستقبل آلافَ اللبنانيين العائدين صيفًا إِلى ربوع لبنانهم الوطن الغالي، فَلْيَظَلُّوا آخذين علينا تَمَسُّكَنا بالحياة، وَلْيَغْرَقُوا وحدهم بنعيب الموت ونعيق التشاؤم ونقيق البؤْس وتَيْئِيس الشعب بآرائهم وتَشَاؤُمهم ونَعْيِهم وغسْل دماغ أَتباعهم بأَجواء لا تُشبهنا، ولا نريد أَن تُشبهَنا، ولن نرضى بأَن تُشْبهَنا.
نحن أَبناءُ الفرح، نَنْشُدُهُ في سلوكنا، ونُنْشِدُهُ في إِيماننا بلبنانَ وطنًا خالدًا منَحتْهُ الحياةُ نعمةَ الحياة، فانبرى إِليها مندفعًا بِثِقة، مَدفوعًا ببركة الآباء مؤَسسي وطننا على حُب الحياة ومقاومة الموت بإِرادة الحياة.
بهذا الإِيمان ناضلَ شارل قرم على حياته في فترة دقيقةٍ من تاريخ لبنان الحديث، بـ”المجلة الفينيقية” وسهرات رائعة في بيته كانت تضم نخبة أُدباء لبنان الأَربعينات، وبهذا الإِيمان ذاتِه يُواصل ولداه دافيد وأَحيرام رسالتَه بأُمسياتٍ ثقافية يهيِّئانها اليوم في مؤَسسة والدهما اللبناني العنيد شارل قرم.
شكرًا دافيد وأَحيرام على ما يُقدِّمان، وعلى ما يكملان به إِرثَ والدهما الشاعر. فما إِلَّا بهذا الإِرث الكبير يتواصل إِرث لبنان الكبير حضارةً وفكرًا وتراثًا يشِعُّ على العالم.
تلك الليلة، خرجْنا من حديقة شارل قرم ونحن أَكثرُ إِيمانًا من لحظة دخولنا، بأَنَّ لبنان الحقيقيَّ الخالدَ هو لبنانُ الثقافة الذي يتحدَّى الموتَ بالإِبداع، والخوفَ بالتراث، والتشاؤُمَ بالتمسُّك الأَقوى بأَرزةٍ في قلْب علَمنا، وعلى جبين جبالِنا فوق، فوق، مطرح اللي بيوقف الزمان، ونسكَر بِـإِسمك مجْد يا لبنان.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com