قبل شهر تمامًا من اليوم (14 آذار 2024) ودَّعتِ فْرنسا الأَميرال البحريّ فيليب ديغول الذي توفي في 13 آذار عن مئة وسنتين (1921-2024). ولَكَان مرَّ وَداعُه عاديًا بروتوكوليًّا لولا أَنه ابنُ الرئيس الفْرنسي الخالد شارل ديغول. وبهذه الصلَة البَنَوية صرَّح يومًا للكاتب اللبناني الفرنكوفوني عبدالله نعمان: “هذا الشَبَه، بِطُولي وملامحِ وجهي بيني وبين أَبي، سَحَقَني على حياته ومستمرٌ في سحقي بعد مماته”. جاء ذلك في أَيلول 1993 يوم التقاه الصديق عبدالله إِبَّان لقاء رسمي في الــ”كيه دورسيه” (وزارة الخارجية)، وأَلمحَ إِليه عن الشبَه الساطع بينه وبين أَبيه الرئيس. وروى عبدالله ذلك في الصفحة 15 من مقدمة كتابه “تشقُّقَات في تمثال الجنرال” (بالفْرنسية، شباط 2022).
لِـمَ قال فيليب ديغول ذلك بِـحسْرة غير مكتومة؟ هنا القصة الكاملة.
كان شارل ديغول يَرغب في أَن ينتسبَ ابنُه الوحيد إِلى السلْك الدبلوماسي، لكن بِكْره فيليب فضَّل الانتساب إِلى البحرية، فانتسب سنة 1940 إِلى المدرسة العسكرية البحرية سنة 1940 وهي سنةُ صُدُور النداء الشهير الذي أَطلقَه الجنرال ديغول من لندن في 18 حزيران 1940 لتحرير فرنسا من الاحتلال الأَلماني وعميلِه المارشال بيتان. وبالترقية الطبيعية التلقائية أَصبح فيليب نائبَ ضابط سنة 1941، وساهم في تحرير فرنسا سنة 1944، وفي تحرير باريس في 25 آب 1944، ورُقِّيَ إِلى رُتبة مُلازم سنة 1948. ومع انتخاب والده الجنرال ديغول رئيس فرنسا في 8 كانون الثاني 1959 ولايةً أُولى، ثم ولايةً ثانيةً حتى نهايتها في 28 نيسان 1969، وطيلة تلك السنوات العشر لم يَسمَح شارل ديغول أَن يتعاطى ابنُهُ فيليب في الشأْن السياسي. وظلَّ الابنُ يترقَّى درجاتٍ مستحَقَّةً له كأَيِّ زميلٍ له في سلاح البحرية دون أَيِّ تمييزٍ لكونه ابنَ رئيس الجمهورية…وحين طلبَ الرئيس ديغول إِجراء استفتاءٍ حول سياسته، وَتَطَلَّبَ نسبةً معيَّنَةً من النتيجة ولم يَنَلْ تلك النسبة، وَضَّبَ حقيبته في 28 نيسان 1969 وغادر الإِليزيه إِلى بيته في “كولومبيه لي دوزيغليز” Colombey-les-Deux-Églises، وانسحبَ كُــلِّـــيًّـا من الحياة السياسية ليُتَوَفّى في 9 أَيلول 1970. وما إِلا بعد 16 سنة (28 أَيلول 1986) حتى ترشَّح فيليب ديغول لمقعدٍ في مجلس الشيوخ الفرنسي، فاز به وأُعيد فوزُه لولاية ثانيةٍ في 24 أَيلول 1995، ثم تقاعَدَ وانسحبَ من الحياة السياسية حتى وفاته في 13 آذار 2024 عن مئة وسنتين…
كل هذا الأَعلاه لأَقول إِنَّ رجل الدولة الشهم يَدخُل في خدمة الدولة وحده دون أَن “يَشْحن” معه ابنه أَو صهره أَو قريبًا أَو أَحدًا من نسْله أَو أَزلامه أَو محاسيبه فيُتْخمَ الدولة بآلاف موظفين يُرهقون ميزانيتها بمصاريف تُثْقِل ماليتها بهدر فاجع.
هذا يذكِّرني بمقولة الكاتب الأَميركي جيمس فريمان كلارك: “رجُل الدولة يسعى إِلى خدمة الأَجيال المقبلة، ورجُل السياسة يسعى إِلى الانتخابات المقبلة… رجلُ الدولة يضع ذاته في خدمة الدولة، ورجل السياسة يجعل الدولة في خدمته فيستخدم أَركانها وموظفيها وميزانيتَها وماليتَها لمصلحته الشخصية الخاصة”.
وكي لا أُقارن بين وضْع شارل ديغول وابنه فيليب، وما يجري في عشيرة السلطة القبيلية في دولة لبنان، أَختُم بهذه المقولة التي بها ختَم عبدالله نعمان كتابه: “يومَ عاد الجنرال إِلى كولومبيه، كان يعرف أَنه تخلَّى نهائيًّا عن هالته كقائد. وبوُصُوله إِلى البيت، خلَع معطف ديغول الإِليزيه، ولبِسَ معطف شارل ليكونَ ديغول الأُمَّة الفرنسية كلِّها”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com