في سيرة الكاتب والسفير الفرنسي وعضو الأَكاديـمْيَا الفرنسية بول موران (1888-1976) أَنه أَصدر سنة 1938 كتابه الشهير “الأَبيض المتوسط – بحر المفاجآت”. وإِذ جاء في كتابه على ذكْر لبنان كتَبَ حرفيًّا: “هاتان صور وصيدا، أَمامهما يهدُر البحر، في قلبهما تضوع أَشجار الليمون والبرتقال، في بساتينهما تنساب مياه لبنان، وعلى رمالهما تنتشر شباك الصيادين. هاتان المدينتان، لأَلفَي سنة قبل الميلاد، كانتا مملكتَين شقيقتَين تختصران كلَّ تاريخ العالم”.
أَيُّ مجد هذا لوطننا الساطع الحضارة، بما حققه اللبنانيون من سطورٍ نوَّارةٍ في ذاكرة الحضارة، منثورةٍ كالشهُب المتلأْلئة منذ فجر الزمان القديم حتى اليوم. وأَقول “حتى اليوم” لأَنني تلقيتُ عدد هذا الشهر (حزيران) من مجلة “التاريخ” (شهرية علْمية تأَسسَت في باريس سنة 1978)، على غلافه صورة فينيقيين من صيدا وصور يدفعون الجزية للملك الأَشوري شلمنصَّر الثالث نحو سنة 848 قبل الميلاد. والصورة تفصيل جُزئي لنقش برونزي على إِحدى بوابات بلاوات (جنوب غربي الموصل) وهي مصنوعة من خشب الأَرز الذي من لبنان. وعلى صورة الغلاف ثلاثة عناوين: “الفينيقيون”، “صور، صيدا، بيبلوس”، “عظمة المدن التجارية”.
فتَحْتُ العدد، فإِذا هو يبدأُ بملفٍّ خاص من ست وعشرين صفحة، تستهلُّهُ افتتاحية العدد بعنوان: “رجال من صُور” جاء فيها: “نعرف عن الفينيقيين أَنهم كانوا أَسياد البحر، وأَنهم استنبطوا أَحد أَقدم الأَنظمة البحرية في التاريخ، وأَنهم اخترعوا الأَبجدية، وأَنهم أَسسوا مملكة قرطاجة، وأَن أَول ذكْر لبيبلوس وردَ في مرجع مصري قديم من الأَلف الرابع قبل الميلاد. وتواتَرَ إِلينا ذكْرُ الصيدونيين ورجال صور في أَكثر من مرجع قديم، وكيف ربطوا باكرًا في التاريخ علاقاتٍ تجاريةً مع أَناضوليا وبلاد ما بين النهرين، يصدِّرون إِليها الحديد والخشب والنحاس والأَواني الزجاجية المرمرية الحاوية زيوتًا معطَّرة يستخدمها نخبويُّو الشعب المترف”.
أَفتح العدد بعدُ فأَقرأُ مقالاتٍ ودراساتٍ موثَّقةً عن بيبلوس وبيروت وصيدا، وكيف كانت مُدُنًا/ممالِكَ مستقلة، برزت فيها منذ الأَلف الأَول قبل الميلاد أَنشطة حرفيَّة تجارية مزدهرة، وتنامت تجارتهم مع معظم دول المتوسط لخبرتهم البحرية المتطوِّرة وظَّفوها في تبادلاتهم مع القارات الآسيوية والأَفريقية والأُوروبية. وفي مقال آخر أَن فينيقيا كانت ممتدة من أَرواد شمالًا إِلى عكا في الجنوب، وأَن مراسلات كانت ناشطة بين أُوغاريت وبيروت وصيدا التي اكتُشف فيها معبد بعل صيدا، وصْرَبْتا (الصرفند اليوم) وفيها اكتُشفت نقوشٌ بالأَحرف الفينيقية، بينها نقشٌ ترجمتُه: “أَنا صُوْر الكاملة الجمال”. وذكَرَ مقال آخر أَهمية صور وصيدا، ورد فيه استشهاد من حزقيال أَن “صُوْر كانت جزيرة بشكل سفينة في قلب البحر، منها انطلقَت إِليسا لتبني قرطاجة التي اسمها يعني المدينة الجديدة”. وفي مقال ختامي في الملف استشهاداتٌ عن الزمن الفينيقي من الشيخ عبدالله العلايلي وشارل قرم وسعيد عقل.
أَعرف أَن معظم ما في هذا الملف يَعرفه كثيرون. لكنَّ إِثارتَه اليوم تأْتي إِبان فترة حالية يتخبَّط فيها لبنان وسط عواصف عاتية بسبب حكامه وقادته وسياسييه الذي لا يعرفون أَيَّ ضرر يهشِّمون به صورة لبنان الوطن التاريخي في العالَم، فيما الغرب يرانا على حقيقتناـ ويعرف أَيَّ وطنٍ غيرِ عاديٍّ هو لبنان الحضارة، وكيف لا يستحقُّ أَبدًا أَن يَحكُمَهُ أُمِّيُّو حضارة لا يَرَون من لبنان إِلَّا قطعانَ محاسيبهم أَغنامًا صاغرة ببغاويًّا.
وهذه ليست أَبدًا صورةَ شعبنا الذي خطَّ عنوان لبنان في التاريخ على جبين الصفحة الأُولى من كتاب التاريخ.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com