هنري زغيب
في يومية الأَحد 10 أَيار/مايو 1908 دوَّنَتْ ماري هاسكل في دفتر مذكراتها أَنها، في الليلة السابقة (السبت) ذهبَت وجبران إِلى أَحد مسارح بوسطن، وشاهدَا الأُوپرا الپاريسية الشهيرة “الكونتيسَّة اللَعوب” (لـمرسيل جانڤييه، مترجَمَةً إِلى الإِنكليزية) ثم عادا معًا إِلى غرفتها في المدرسة (314 شارع مارلبورو) وسهر معها جبران حتى الواحدة بعد منتصف الليل.
وبين ما دوَّنَتْ غداتَها (الأَحد) في يوميِّتها عن سهرة السبت: قولُ جبران لها إِنه سيأْتَمِنُها على سرٍّ لن يبوحَ به لسواها، وطلبَ منها أَن يبقى لها فقط. وهو أَنه، إِبَّان سنوات التَلْمَذَة في بيروت (معهد “الحكمة” 1898-1902) شُغِفَ بأَرملة شابَّة جميلة جدًّا في الثانية والعشرين اسمُها سلطانة تابت، “جذَّابة، ناعمة، ناضجة”. كان يكتب لها رسائل فتُجيبه إِنما بلهجة حيادية. كانا يتبادلان الكتب ويناقشانها، ويتحدَّثان في شُؤُون الشعر والأَدب دون الأَحاديث “الحميمة”. وحين تُوُفيَت فجأَةً بعد أَربعة أَشهر من صداقتهما، قصدَتْه صديقةٌ لها وسلَّمَتْه شالًا مختومًا، بعضَ المجوهرات، ورزمةً من 17 رسالة حب مختومة ومُعَنْوَنَة له جاهزة للإِرسال كتَبَتْها له ولم ترسِلْها إِليه، وفي جميعها لهجةُ حب وشغَف. وأَضاف: “كيف يا ماري أَصف لكِ حُزني الفاجع وأَسفي البالغ أَلَّا تكون أَرسلَتْها إِليَّ كي أَعرف مدى حُبِّها إِياي. وبقيَتْ أَشهُرًا طويلة لا أَنساها ولا تُبارح مخيلتي وأَحاسيسي وذاكرتي”.
حوار ماري وجبران
وفي تلك اليومية ذاتها دوَّنت ماري هذا الحوار بينها (م) وبينه (خ=خليل كما كان معروفًا في أَميركا) حول تلك السيِّدة:
“م: هل يمكنكَ أَن تَرسمها من ذاكرتك؟ (تناول ورقةً بيضاء عن مكتبي، وأَخذ يَرسم وهو يقول لي):
خ: كانت لها عينان من أَطْوَل وأَجمل ما رأَيتُ في حياتي. أَتذكَّرهما كأَنها الآن أَمامي.
م: أَلهذا أَرى هذا الشكل الخاص للعينين في رسوم لكَ أُخرى؟
خ: صحيح. وكان بين ذقْنها وأُذنها خطٌّ طويل كأَنه أُغنية، وكان عُنقها طويلًا ومستديرًا، وشفتُها السفلى كأَنها ورقة ورد.
م: هل تحلُم بها غالبًا؟
خ: طيفها يأْتيني أَحيانًا. أَحلامي تذكِّرني بأُخرَيَات أَما هي فتأْتيني خارج الحلم. تُطل عليَّ فجأَةً ولا أَكون أُفكِّر بها. وها سأَختم بوردةٍ بيضاء أَضعها فوق أُذنها كما كانت تفعل حين تقابلني.
سأَلْتُهُ أَن يكتب اسمَها تحت الرسم، والسنةَ التي عرفَها فيها، فكتَب كلمتَين بالعربية لم أَفهَمْهُما، ربما اسمها، لم أَسأَلْهُ. لكنه كان يبتسم بحنانٍ لذيذ وهو يكتبُهما. ثم ختم الرسم كاتبًا اسمَها بالإِنكليزية مع تاريخ 1901″.
إِلى هنا تنتهي يوميَّة ماري هاسكل في 10 أَيّار/مايو.
خيال أَم حقيقة؟
طبعًا لا دليلَ بيِّنًا على “صحة” ما رواه جبران لماري هاسكل، وقد يكون كلُّه نَسْجَ مُراهقٍ أَكثر مما هو واقع. كان يضفي أَمامها على تلك الأَرملة الشابة الجذابة صفاتٍ رومنسية. لكن تلك السيدة لم تكُن من خيال جبران بل امرأَة موجودة فعلًا: هي، على ما قاله جبران، شقيقة “رفيق الدراسة” أَيُّوب تابت (1874-1947) الطبيب الذي سيصبح لاحقًا رئيس لبنان (18 آذار/مارس إِلى 21 تموز/يوليو 1943). وكان سنة 1915 هرب من السلطة العثمانية إِلى نيويورك والتقى جبران، وأَسس “لجنة تحرير سورية ولبنان” للعمل على “تحرير سورية من الاحتلال العثماني والمطالبة بكيان مستقل في جبل لبنان بحماية فرنسية ضمن حدوده القديمة”. كان تابت رئيسها، وأَمين الريحاني نائب الرئيس، وميخائيل نعيمه للمراسلات العربية، وجبران للمراسلات الإِنكليزية. ولاحقًا، في رسالة إِلى هاسكل (7 تشرين الثاني/نوڤمبر 1928) كتب لها أَنه لا يرغب في تلبية طلب صديقه الطبيب أَيوب تابت (وزير الداخلية والصحة) بالسفر إِلى لبنان كي يشاركه في الحكْم.
تلك كانت “رواية” جبران كما “نَسَجَها” هو، ودوَّنتْها ماري هاسكل.
ولكن… ما الحقيقة فيها وما الخيال “الروائي”؟
الوقائع غيرُ ذلك
في تحقيق صدر قبل أَيام للباحثَين غْلِن كَليم Glen Kalem(أُستراليا) وفرنشسكو مِديتشي Francesco Medici(إِيطاليا) على موقعهما الخاص بجبران (Gibran Collective)، أَورَدَا خمس ثوابت تَنقُض “رواية” جبران:
ثابتة أُولى: أَيوب تابت لم يكن “زميل” جبران في الدراسة. كان يكبره بتسع سنوات.
ثابتة ثانية: تابت لم يدرس في معهد “الحكمة” بل في “الكلية السورية الإِنجيلية” (“الجامعة الأَميركية” منذ 1920) وتخرَّج منها سنة 1893 ليسافر عامئذٍ إِلى جامعة تكساس ويتخرَّج منها طبيبًا سنة 1900.
ثابتة ثالثة: لم يكن لأَيوب ثابت شقيقةٌ اسمها سلطانة، بل شقيقة اسمُها إِليزابيت، معروفة بــ”صابات”، ولدَت سنة 1877.
ثابتة رابعة: سنة 1901 (كما أَرَّخ جبران الرسمَ على الورقة) لم تكن تزوَّجَت عامئذٍ حتى “تترمَّل” في عامها الثاني والعشرين، بل تزوَّجت سنة 1906 وكانت في التاسعة والعشرين.
ثابتة خامسة: لم تمُت “صابات” في الثانية والعشرين بل عاشت حتى 1955 وتوفيَت في الثامنة والسبعين.
الغريب، من هذه الثوابت الخمس، أَن جبران أَعطى ماري هاسكل معلوماتٍ غيرَ دقيقة، اسمًا وحقائق وتواريخ.
والغريب أَيضًا ما دوَّنَتْهُ ماري هاسكل لاحقًا في يوميَّة السبت 16حزيران/يونيو 1923 أَن جبران حدَّثَها عن ظاهرة حرف “الميم” الجامع أَسماءَ نساء في حياته: مريانا شقيقتُه، ماري هاسكل، وأَرملة شابَّة تدعى مرتا م. “روحها ظلَّت ترفرف عليه في صباه”. ولم يَرِد ذكْر هذه الـ”مرتا” في أَيِّ صفحة أُخرى من يوميات ماري هاسكل، لذا يستحيل كشْف شخصيتها أَو نوع العلاقة بينه وبينها.
أَيُّهنَّ سلمى؟
الغريب أَخيرًا أَن مؤَرِّخي جبران يربطون سنوات دراسته في لبنان بقصة حُب في بْشرِّي صيفًا بينه وبين الآنسة حلا الضاهر، وانكسار القصة بحيلولة لقاءاتهما. من هنا ربطوا بينها وبين سلمى كرامة في “الأَجنحة المتكسرة”.
فـمَن هي المرأَة الحقيقية في حياة جبران إِبان دراسته تلك السنوات الأَربع في لبنان: سلطانة؟ مرتا؟ حلا؟ أَم ولا أَيٌّ منهُنَّ، وكانت قصة “الأَجنحة المتكسرة” جمعًا بينهنَّ و… “صياغةً كاملة من خيالي” كما قال يومًا لماري هاسكل التي كانت تدوِّن ما يقول و…تُصَدِّقه في كل ما كان يقول؟
كلام الصور
- جبران وماري هاسكل: دوَّنت وصدَّقَت كلَّ ما كان يقول لها (الصورة الرئيسة)
- الرسْم والتاريخ (9 أَيَّار/مايو 1908) على ورقة من مدرسة ماري هاسكل (314 شارع مارلبورو)
- رسْم آخر وضعه جبران لسلطانة تابت
- الأُوپِّرا التي شاهداها ليلة ذاك السبت
- أَيوب تابت بريشة قيصر الجميِّل
- تابت والريحاني ونعيمه وجبران في “لجنة التحرير”