هنري زغيب
عبقريةُ الفن أَنه فضاء واسع لا يحصره حدٌّ ولا تكبِّله قيود. وكما القماشةُ البيضاء مساحةٌ للرسام حُرَّةٌ تتنقَّل عليها ريشته مغمَّسَةً بالأَلوان الزيتية أَو المائية وتروح تتنقَّل على البياض محوِّلةً إِياه دنيا جميلة مُكَبْسَلَةً في لوحة، بلغَت حريةُ الفنان المبدع أَن يبتعد عن الـمَلْوَن وأَنابيبه ومسطَّحاته المائية أَو الزيتية، ليبلُغ… فنجان القهوة الذي، عوض أَن يكون رفيقًا في محترف الفنان، بات هو الفضاء الذي تطير منه وإِليه أَشكالُ الإِبداع.
ملعقة جوليا…
عن الرسامة الإِيطالية جوليا برناردِلّي (مولودة في مدينة مانتوڤا – شماليّ إِيطاليا سنة 1988) قولها: “غدي يولد كل صباح حين أَصحو وأَجد عملًا إِبداعيًّا ينتظرني لأُنجِزه”. وهو هذا ما تفرَّدَت به جوليا التي، فيما الإِيطاليون يتناولون “الكاپُّـوتشينو”، غمسَت ريشتها في الفنجان وأَطلعَت منه أَشكالًا لافتة كأَنها ببراعتها مرسومةٌ بالأَلوان المائية.
وإِذا من تقاليد الصباح تناوُلُ فنجان قهوة ليبدأَ النهار، فجوليا تبدأُ نهارها بما وقع لها مصادفَةً حين دلَقَت ذات يوم فنجانها على قماشتها البيضاء وهي ترسُم. وإِذا بها، عوض أَن تجفِّف بِقماشةٍ بُقعةَ القهوة البُنِّيَّةَ التي كرَجَت، تناولَت الملعقة وراحت تخطِّط بها أَشكالًا على القماشة البيضاء.
… وعيدان الكبريت
منذ تلك المصادفة يومها، وجدَت واسطة جديدة لفنِّها: الرسم لا بالريشة بل بالملعقة وببعض عيدان الكبريت لتحديد تفاصيل رفيعة ودقيقة لا تؤدّيها الملعقة. وهكذا، بين ثقافتها الأَكاديمية للهندسة الداخلية، ودراستها رسم الوُجوه، طوَّرَت براعتَها التشكيلية للرسم بسائل القهوة تقوده بأَناملها ملعقةٌ بارعةٌ بين أَشكال ووجوه وتقاطيع تستوحيها من كل ما تراه. وتوصلَت بخطوط القهوة إِلى استعادة روائع أَعمال النهضة الإِيطالية (الموناليزا، ولادة آدم، ولادة ڤينوس، …). ومنذ تكرسَت في إِيطاليا “فنانة القهوة”، واصلت استخدام وسائط أُخرى أَيضًا منها البوظة الذائبة، وبعض الفواكه، وقطع الخُضَر، وما لا يخطر في بال أَحد أَنها تصلح لعمل تشكيلي.
ريشة ماريَّا…
تلك المصادفة ذاتُها جرت مع الرسامة القبرصية ماريَّا آريستيدو (مولودة في لارنكا سنة 1990 وتعيش في ليڤربول – إِنكلترا).
ذات يوم من شباط/فبراير 2015 كانت ترسم مائية لأَحد الزبائن. كادت أَن تنتهي منها وتُنْجزها نهائيًا حين دلقَت فنجان القهوة على ورقة الرسم فوق معظم اللوحة. عوض أَن تصرخ غضبًا وحُرقةً من تَلَف لوحة صرفَت عليها وقتًا طويلًا، وأَمام ما تشكَّل أَمامها في خطوط وأَشكال من الأَلوان المائية ممزوجةً مع سائلِ القهوة، لمعَت في بالها فجأَةً فكرة المحاولة بهذا الأَخير. ومن يومها أَخذت تُطوِّر عملها في الرسم بسائل القهوة، فانفتح أَمامها أُفق جديد طرَّزَتْه بتقْنية جديدة. أَخذت تتخلَّى تدريجيًّا عن الأَلوان المائية، وبدأَت تعمِّقُ تشكيلها الجديد فتُرسل ريشتها إِلى تنويعاتِ سائل القهوة البُنِّيّ، وتقطف منه رُسُومَ وجوهٍ شهيرة، مع دقَّة الظلال والخطوط والتموُّجات الخفيفة والسميكة، الفاتحة والغامقة، فيخرج الرسم بلون السـيـپـيـا (الحبَّاري البُنّي) ويعطي المشهد طابع العتيق المجدَّد.
… وتقنية القهوة
لوحةً بعد لوحة، تركز فنُّها واثقًا مهنيًّا وأَكاديميًّا (هي خريجة جامعة مانشستر للفنون) وتعدَّدت لوحاتها في معارض فردية وجماعية، تستعمل لها مرات ورقَ الرسم العاديَّ، أَو تستخدم خمسة أَنواع من حُبُوب البُنّ وفق التنويعات اللونية التي يفرضها موضوع اللوحة، تمامًا كالتي يبرع الرسام بتنويعها شفافةً أَو سميكةً بالأَلوان المائية.
هكذا، بهذه التقنية الفريدة غير المأْلوفة، راحت ترسم وجوهًا شهيرة (آينشتاين، الملكة إِليزابيت، …)، حيواناتٍ أَليفةً، نجومَ تلڤزيون أَو سينما (مارلين مونرو، شارلي شاپلن، فريق البيتِلز،…)، شخصيات رُسُوم متحركة (معظمُها من تراث “ديزني”)، حتى بلغَت شهرتها بهذه التقْنية الفنية أَن صدر عدد من المجلة العالمية الشهيرة “ناشيونال جيوغرافيك” وعلى غلافه الكامل من ريشة ماريَّا رسمٌ بالقهوة لفتاة أَفغانية مذعورة.
هكذا، كما قلتُ في بدء هذا المقال، عبقريةُ الفن أَنه فضاء واسع لا يحصره حدٌّ ولا تكبِّله قيود. بالأَلوان المائية أَو الزيتية أَو بسائل القهوة وحبوب البُن، يجترح الرسام الموهوب المبدع أَشكالًا يحاكي بعضُها الطبيعة، وبعضُها الآخر قد تشتهي الطبيعة أَن تكون فيها.
كلام الصور
- جوليا: “من فنجان القهوة تخرج المدينة”
- جوليا: “شعر يتطاير بين ملعقة وفنجان”
- جوليا: “مُدُن تدور حول فنجان قهوة”
- ماريَّا تحمل إِحدى لوحاتها
- ماريَّا: غلاف “ناشيونال جيوغرافيك”
- ماريَّا: “عبقرية آينشتاين”