هنري زغيب
ما زال هذا الــ”جبران خليل جبران” يطالعنا بجديده كل يوم، إِذا لم يكن منه فعنه، وإِذا لم يكن هو فالسوى لكنه هو المحور. آخر ما وصلني هذا الأُسبوع رسالة من شقيقته مريانا إِلى اللبناني أَنطوني رزق الله فارس الذي كان راسلَها ليطلب إِذْنها (مع أَنها ليست صاحبة الحقوق) أَن يترجم نصوصًا عربية من شقيقها جبران إِلى الإِنكليزية. الرسالة اكتشفَها الباحث الإِيطالي فرنشسكو مِديتشي Francesco Medici أَحد أَهم الجبرانيين المنقِّبين منذ سنوات عن آثار جبران وتُراثه ورسائله ومخطوطاته.
هنا نبذة عن المترجم ثم نص الرسالة وأَصلها المخطوط وتعليقي عليها.
المترجمون
كثيرون هم الذين ترجموا مؤَلفات جبران الإِنكليزية إِلى العربية، أَوَّلهم صديقه الأَرشمندريت (المتروبوليت لاحقًا) أَنطونيوس بشير (كان صديق جبران وترجمها واطَّلع عليها جبران)، وتتالت بعده ترجمات عدَّة (خصوصًا كتاب “النبي”) لعدد من المترجمين، أَبرزُهم ميخائيل نعيمة ويوسف الخال وعبداللطيف شرارة وثروت عكاشة ونويل عبدالأَحد ونديم نعيمة وسواهم.
غير أَن الذين ترجموا نصوصه العربية إِلى الإنكليزية أقل بكثير، أَوَّلهم صديقه إِندرو غَريب (من راشيا الفخار، كان صديق جبران وترجمها واطَّلع عليها جبران وأَذِنَ له بنشْرها)، وأَنطوني رزق الله فارس الذي ترجم إِلى الإِنكليزية نصوص جبران العربية وصدرَت في مجموعة مكثَّفة من 420 صفحة بعنوان “كنوز من خليل جبران” (A Treasury of Kahlil Gibran) عن منشورات “كاسِل” Castle (نيوجرزي) بتحقيق من الباحث مارتن وولف الذي هو أَيضًا ترجم بعض كتب جبران العربية إِلى الإِنكليزية. وأمامي الآن طبعة 1978 من هذا الكتاب.
وبين ما أَصدرت الدار ذاتها (“كاسِل”) من ترجمات أَنطوني فارس الإِنكليزية عن كتابات جبران العربية: “دمعة وابتسامة”، “الأَجنحة المتكسِّرة”، ومختارات من نصوص جبران بينها: “جبران – رسم ذاتي”، “جبران – صوت المعلِّم”، “جبران – أَفكار وتأَمُّلات”، “المواكب”، “مرايا الروح”، “الأَرواح المتمردة”، “جبران – أَقوال روحانية”، وسواها.
أَنطوني فارس
على الصفحة الثالثة من غلاف هذه الطبعة الإِنكليزية جاء عن المترجم اللبناني ما يلي: “أَنطوني رزق الله فارس، من عائلة زينون، وُلِدَ في بلدة رومية (منطقة المتن الشمالي)، وأَظهر باكرًا مهارة لافتة في اللغات، تعمَّق بها في مدرسة برمانا العالية Broummana high school وأَكمل دراسته العليا لدى الجامعة الأَميركية في بيروت… ترجماته الإِنكليزية لنصوص جبران العربية تُبرز رهافة لديه في فهم دقائق التعابير الجبرانية ومعانيها في لغة عربية رشيقة غالبًا ما تصعب ترجمتُها”.
وعن السيدة بدر زينون (ابنة شقيقه) أَن عمَّها أَنطوني ولد في 22 كانون الثاني/يناير 1906، والدُه رزق الله فارس زينون ووالدتُه زيزف اسكندر بوحمَد، تزوج من كارمن ماري قازان، وتوفي نهار 2 تشرين الأَول/ اكتوبر 1962 في أُوستن (تكساس). غادر لبنان بعد إِنجاز دراسته الجامعية، وسافر إِلى الولايات المتحدة والْتحق بالجيش ودرَّس الرياضيات، ولدى متحف الفنون في سان أَنطونيو (تكساس) غرفة خاصة تضم كتاباته ومخطوطاته وترجماته وآلة العود التي كان يعزف عليها، وهو ترجم إِلى الإِنكليزية كتاب “كليلة ودمنة” (ما زال مخطوطًا)، وله ولد مُـحامٍ يحمل اسمه: كارلي أَنطوني.
هذا كل ما تيسّر لي من معلومات أَولية عن هذا المترجم المغمور الذي اكتفى بنقْل جبران من لغته الأُمّ إِلى الإِنكليزية ثم اختفى، تَوَاضعًا، وراء قامة جبران.
مريانا
يبدو أَنه، بضمير حي مهني واحترافي، راسل مريانا شقيقة جبران، طالبًا إِذْنها لترجمة النصوص العربية، فأَذِنَت له، عفويًّا وعاطفيّا، مع أَنها ليست رسميًّا صاحبة حقوق النشر والترجمة في إِذْنٍ موثَّق.
ومريانا هي شقيقة جبران الوسطى. وُلِدَت في بشرّي بعده بسنة واحدة (1884)، وتوفيَت في بوسطن عن 88 سنة (الثلثاء 28 آذار/مارس 1972). لم تتزوَّج، كرَّست حياتها لخدمة جبران والعناية به. وحين غادر بوسطن إِلى نيويورك (1911)، ظلَّت تهتمّ به، وظل دومًا يعود إِلى بوسطن يقضي معها فترات من السنة مطمئنًّا إِليها ويرفدُها بما يؤَمِّن لها حياة كريمة مريحة.
الرسالة
رسالة مريانا إِلى أَنطوني فارس أَمْلتْها حتمًا على مَن يكتبها إِذ لم تكن تعرف الكتابة. فهي وصلت صغيرةً سنة 1895 إِلى بوسطن مع والدتها كاملة وأَخيها (من أُمها) بطرس، وشقيقها جبران وشقيقتها الصغرى سلطانة، وسرعان ما انصرفت الابنتان إِلى الشغل اليدوي (مع والدتهما) لتأْمين العيش، وانصرف الأَخ بطرس إِلى فتح دكان صغير، وانصرف جبران إِلى المدرسة القريبة يبدأُ دراسته، فلم يتسنَّ لمريانا أَن تتعلَّم القراءة والكتابة.
من هنا التعثُّر في كتابة الرسالة إِلى أَنطونيو فارس، في بعض الكلمات (“العذيذ”، “كلما” بدل كلّ ما، …) وفي خُلُوّ الرسالة تقريبًا من التنقيط، وفي نص أَقرب إِلى المحكيَّة، وفي الخلط بين المخاطب المفرد (كتابك) والمخاطب الجمع (وجدت بكم)، وفي ختام الرسالة بـــ”… والله يبقيك سليمًا معافى للداعية مريانا”، وهي الخاتمة ذاتها التي كان شقيقُها جبران يُنْهي بها رسائله: “والله يبقيك معافى لأَخيك جبران”.
وهنا نص الرسالة أَنقله بحرفيته من دون تصحيح:
“عن بوسطن في 4 آب 946 (كذا)
حضرة الاخ العذيذ (كذا) السيد طانيوس رزق الله فارس حفظك الله
بعد تقديم واجب الاحترام (فراغ أبيض) اعرض (فراغ أبيض) وصلني كتابك اللطيف وسرني كلما (كذا) به من العبارات الجميلة. سرني وأَبكاني بوقت واحد (فراغ أبيض) سررت لاني وجدت بكم الصديق والمحب المخلص والغيور للمرحوم اخي جبران وابكاني (كذا) تلك العبارات الحلوة اللطيفة الصادرة عن قلب مملو (كذا) بالعطف والحنان. لذلك تراني مستعدة لكل خدمة اقدر ان اقوم بها نحوكم. اما من خصوص (كذا) ترجمة بعض الكتب والمقالات للمرحوم اخي جبران فلك تمام الحرية ان تترجم كلما (كذا) تريده وتراني شاكرة لك ومحبذة عملك هذا وداعية لكم بالنجاح والتوفيق والله يبقيكم سليما معافى للداعية مريانا خليل جبران “.
جبران كل يوم
مهما يكن من أَمر الرسالة وما فيها وكيف كُتِبَت، يبقى أَن هذا الــ”جبران خليل جبران” مات ذات يوم (31 نيسان/أَبريل 1931) وما زال يولد كل يوم في ترجمة جديدة، في طبعة جديدة، في دراسة جديدة، في رسالة جديدة منه، إِليه، أَو عنه، ما يُبْقيه حيًّا ولو خلف جثمانه في بْشرِّي.
وهل غير ذلك يكون الخلود؟
كلام الصور:
- المخطوطة الأَصلية: رسالة مريانا جبران إِلى أَنطوني فارس
- مريانا جبران وأَنطونيو فارس
- غلاف الترجمة الإِنكليزية للنصوص العربية
- الصفحة 3 من الغلاف الإِنكليزي