مثل اليوم، تمامًا مثل اليوم، قبل خمسين سنة (11 آذار 1973) كان الصمْتُ يُعزِّينا أَمام كنيسة مار ضومط في زوق مكايل، وهو يراقبنا نودِّع أَنطُون قازان غداةَ فاجأَنا أَمْسِئِذٍ (الجمعة 10 آذار) بغيابه الفاجع.
وأَقول “الفاجع”، فلا أُبالغ.. لأَن أَنطُون كان وسْعَ الفضاء اللبناني حُضُورُهُ: محاميًا غيرَ عاديٍّ ذا طوية بيضاء بــ”الروب” الأَسْوَد في قصر العدل، وأَديبًا غيرَ عاديٍّ ذا وقْعٍ ذهبيِّ الرنين إِلى المنابر.. مِن المحامين مَن يشتاقون إِلى المرافعة ومِن الأُدباء مَن يشتاقون إِلى المنبر.. أَنطُون قازان كانت المرافعةُ تشتاق إِليه، وإِليه كان يتشوَّقُ المنبر.
من نَصاعة الكلمة جاء، وراح يصقُلها.. وظلَّ يصقلها حتى أَصبحت نهجًا لـمدرسةٍ تُشْتَهى في الأَدب الجماليّ. فَرَادتُهُ أَنه لم يكُن يُشبه أَحدًا.. كأَنما جاءَ من ذاته إِلى ذاته، فالعبارةُ عنده مطيَّبَةٌ بالندى، كأَنْ كانَ يغزلُها من زوغة الفراشات حول زهر اللوز في “الزوق” صباحَ يُطلُّ الربيع.
وإِلى الوجه الصَبُوح، كان عذْب الجلسات والصداقات والمطايـبات.. وكم حلَقاتُ السَمَر والسَهَر سجَّلتْهُ فارسَها الأَبهى، يتكَوكَبُ معه الخلَّان حتى ليُتَمَنَّى أَن يتأَخَّر السَحَر ولا يجيْء الفجْر فيتَمادى الليل مُعذَوْذِبًا بأَنطُون يتحلَّق حولَه أَحباؤُهُ الخُلَّص: الخوري يوسف عون، عُمَر أَبو ريشة، جورج غريِّب، سعيد عقل، الإِمام موسى الصدر.. ويَطُول التعداد يَطُول فلا يحصُرُه انغلاق.
لم يكُن يُدعى إِلى منبرٍ إِلَّا ويُرَقِّصه بزهْو كلماته الآتية من ينبوع عجائبيِّ الترتيب والتركيب، ولـمنبر “الندوة اللبنانية” أَصداء ما زالت تتمرَّى في دُغشة الذكرى، محاضِرًا كان أَو مقدِّمًا لـمُحاضِر، فتَضيقُ القاعة باللَهوفين إِلى السمَاع، ينثُرُ عليهم أَنطُون من بلاغاته أَطْيَبها، فيحلو التذَوُّق ويطيبُ التلقِّي كما من شعاعٍ طالعٍ في صحو ليلة ربيعية.
ويكون للمهرجانات الأَدبية عرسٌ تلو عرس، فإِذا عريسُها الدائم أَنطُون يَدور على المدعوين ساقيًا خمرة الأَدب العالي في عرس المهرجان: الأَخطل الصغير، شبلي ملَّاط، الأَب بولس الأشقر، كرم ملحم كرم، أَمين تقيّ الدين، … ففرحةُ المنابر بخطبائها ومحاضريها وشعرائها لم تكُن تَكتمل بدون أَن يقدِّمهم أَنطُون: عُمَر أَبو ريشه، حافظ جميل، أَمين نخله، الشيخ عبدالله العلايلي، غسَّان تويني، بطرس ديب، بولس سلامة، خليل تقي الدين، سعيد عقل، ولا يَنفُدُ التَذَكُّر.
طبيعيًّا كان أَن يبكوا غيابَه الصادم وهو لم يبلغ ربيعه السادس والأَربعين، فيُعيدوا إِليه الوفاء، ليقول له الإِمام موسى الصدر: “كتبتَ بـمداد قلبكَ على صفحات حياتكَ وعلى أَرض وطنكَ خدماتٍ للوطن والمواطنين”، ويقول له سعيد عقل: “نصفُ شِعري كان كي تَقْرَأَه”، ويقول له عمر أَبو ريشة” “فما تُدار على ذكراكَ أَكْؤُسُنا إِلَّا ويرجِع عنها الطرْفُ نديانا”.
لكنَّ جوهر الوفاء الأَعلى تَجَسَّد في ابن أَخيه، المحامي شوقي قازان إِذ بادر إِلى جمع كتابات عمِّه أَنطُون وأَصدَرها في أَجزاء مستقلَّة، طبعةً أُولى فثانية فثالثة وتزيد، وأَنشأَ موقعًا إِلكترونيًّا ممتازًا يضُمُّ كلَّ أَنطُون قازان في تبويبٍ ممتازِ الدقَّة كاملِ المعلومات.
وتكون لالياس أَبو شبكة خفقاتٌ خاصة في قلب أَنطُون، فيكتُب عنه بأَصفى نوستالجيا وأَجَلِّ تقدير. وما زلتُ أَذكر يومَ قصَدتُه في مطلع آذار، وكنتُ عند مطلع عهدي بالكتابة في “النهار”، لحديث صحافيّ أَدبيّ لـ”النهار” عن صديقه وابن بلدته الياس أَبو شبكة، فاعتذر مني لبعضِ اعتلالٍ في صحته، وواعدَني أَزورُهُ صباحَ السبت 10 آذار.
لم أَتخلَّفْ يومها عن الموعد، لكنني لم أَزُره في بيته كما اتفقنا بل حيثُما لم نتَّفِق: في كنيسة مار ضومط – زوق مكايل لأُلقي عليه في نعشه نظرةَ الوداع الأَخير.
كان ذلك مثل اليوم، تمامًا مثل اليوم، قبل خمسين سنة.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com