هنري زغيب
“الشاعر، إِن كان شاعرًا حقيقيًّا، يجب أَن يكرِّر في ذاته دومًا عبارة “لا أَعرف”، ويطبِّقَها على كل ما يقوم به، حتى يظلَّ يَنعَم ببلوغه الدهشةَ مما يصوغه. أَحسَبني أَحيانًا واقفةً أَمام شاعر كبير، أُفصِحُ له عن تفكيري هكذا، فيُجيبني بالعبارة المأْلوفة: “لا جديدَ تحت الشمس. كلُّ ما نقوله قيل”. فأَتخيَّلُني أُمسكه من يده وأُجيبه: “أَنت قلتَ. ولكنْ أَنتَ ذاتُك وُلِدتَ جديدًا تحت الشمس. والقصيدة التي أَنتَ صائغُها هي أَيضًا جديدةٌ تحت الشمس إِذ لم يكتبْها أَحد غيرُك. وجميع قرائك أَيضًا جُدُدٌ تحت الشمس، لأَنهم لم يقرأُوها قبلَك لدى أَحد غيرك”.
استحقاقُها “نوبل“
هذا مقطعٌ من محاضرة طويلةٍ في الشِعر وتجلِّياته والشعراء ونزعاتهم، أَلقتْها الشاعرة الـپـولونية ڤـيسلاڤـا شِمبُورسكاWisława Szymborska صباح السبت 8 كانون الأَول/ديسمبر 1996 على منبر الأَكاديميا السويدية، قبل أَن تقف صباح الثلثاء التالي (10 كانون الأَول/ديسمبر) كي تتسلَّم “جائزة نوبل للأَدب” نهار الذكرى السنوية لغياب مؤَسسها أَلفرد نوبل (21/10/1833 – 10/12/1896).
يومها وقفَت تلك السيدة الجليلة (2 تموز/يوليو 1923 – 1 شباط/فبراير 2012) تتسلَّم أَعلى تقدير عالمي على مجمل أَعمالها: 13 كتاب شِعر بين 1952 و2011، و13 مجموعة من مختاراتها بين 1964 و2007، وخمسة كتب مراجعات أَدبية بين 1973 و2000 بعنوان واحد “مطالعاتي الاختيارية”، وكتابان في الترجمة إِلى الـپـولونية: “أَشعار مختارة من أَلفْرِد دو موسيه” (1957) و”أَشعار مختارة من شارل بودلير” (1970).
هادئةً عاشت حياتها، منصرفةً إِلى الكتابة، لا تُلهيها التزامات أُخرى. لم يَدُم زواجها من الشاعر آدَم ڤـاودِك (1922 – 1986)
سوى ست سنوات (1948 – 1954)، وانصرفَت إِلى التأْليف والكتابة لمجلة تربوية نصف شهرية ترفدُها أَيضًا ببعض رسوم لها ذات طابع خاص.
شاعرة تَكتب بالمقصّ
من هذا الطابع الخاص لديها في سويعات استراحتها من الكتابة: هواية “الكولَّاج”، تَستعمل لها المقص والمادة اللاصقة. وغالبًا ما كانت تَجمع ما تَقص وتُلصق، وترسلُها بطاقاتٍ بريديةً طريفةً لذويها وأَصدقائها في مناسبات عائلية أَو خاصة أَو عامة كالتهنئة بالسنة الجديدة.
وهي كانت تستجمع صُوَرًا ورموزًا تجدُها أَو تَصِلُها فتقصُّها وتُلصقها على كرتونة سميكة، مضيفة إِلى الرسم الأَصلي لمساتٍ ساخرةً حينًا، طريفةً أُخرى. وأَحيانًا تقتطع مقاطع من نص في جريدة أَو مجلة، تضيف لصقًا إِليها صورة من خارجها، أَو تُضيف مقاطع إِلى النص المقتطَع، كأَن تُضيف فمًا بشريًّا إِلى رأْس هر، أَو تَقصُّ رأْس رجلٍ تجعلُه مكان الكرة في يد لاعبة كُرة مضرب.
وقد تتناول صورة أَثر فني شائع فتزيد لصقًا عليها طرافةً، كأَن تنزع صورة الأَميرة الصغيرة من لوحة ديــيـغو ڤـيلاسكيز “مرافِقات الأَميرة” (1656 – حاليًّا في متحف پْـرادو – مدريد) وتجعلَها وسْطَ حقل أَخضر مع قطيع أَغنام. أَحيانًا يكون واضحًا هدفُها، وأَحيانًا غامضًا على سخرية لاذعة.
وهي بدأَت بهواية القَص واللَصق (الكولَّاج) منذ سنة 1967، حين لم تجد ما أَعجبها من البطاقات البريدية تُرسلها للمعايدة، فقرَّرت أَن “تخترع” بطاقاتٍ على هواها، مع أَن ذلك يستغرق منها وقتًا مضنيًا في البحث عن المادة بين الصفحات، والقَص ثم اللصق لـ”إِصدار” بطاقة واحدة وحيدة لا ثانيةَ لها، ترسلُها إِلى مَن تظُن قد يُقدِّر/تُقدِّر دقَّة هذا العمل ووقتَ تصنيعه.
ومع الوقت أَخذ دارسون يلاحظون شبَهًا أَو تقاربًا بين ملصقاتها الطريفة وبعض ما ورد في قصائدها من طُرَف. ورأَوا أَنها في تلك الملصقات الساخرة تعبِّر عمَّا لا تستطيع أَن تعبِّر عنه في قصائدها الجادَّة أَو الشهيرة.
وما لم ترسله منها استعملتْه أغلفة لبعض كتُبها.
حُضُورها بعد غيابها
تقديرًا أَعمالَها الأَدبية والفنية، منحها رئيس الجمهورية برونيسْواڤ كوموروڤـسكي في 11 كانون الثاني/يناير 2011 وسامَ “النَسر الأَبيض” وهو أَرفع وسام تقديريّ في البلاد. وكان ذلك آخرَ ظهور علني لها قبل أَن تُقْعدَها شيخوختها على مشارف التسعين.
بعد وفاتها (2012) راح الباحثون يأْنسون إِلى تلك الملصقات واجدين فيها جزءًا من شخصيتها الشاعرة.
وأَكثر: سنة 2019 جمَع “متحف الفن الحديث” في كراكوڤـيا مجموعةً من ملصقاتها أَقام بها معرضًا استقطَب جمهورًا جاء يكتشف حاملة “نوبل” كيف كانت تلهو حين لا تكتُب الشعر. ومع المعرض أَصدرَت إِدارة المتحف كُتَيِّبًا (بالـپـولونية والإِنكليزية) يحوي مختارات من قصائدها ونثائرها ومقابلاتها الصحافية وصوَرًا من تلك “البطاقات البريدية” الطريفة. وكان ذاك المعرض من أَنجح ما قدَّمه المتحف الذي كان تأَسس في وسط المدينة سنة 2011 لعرض أَعمال الفنانين الـپـولونيين المعاصرين منذ مطلع القرن الحادي والعشرين.
حفْظًا أَعمالَها الكتابية وملصقاتِها، تشكَّلَت “مؤَسسة ڤـيسلاڤـا شِمبُورسكا” في نيسان/أَپـريل 2012، أَي بعد ثلاثة أَشهر على وفاة الشاعرة، وتنفيذًا وصيَّتَها أَن تتشكَّل جمعية للعناية بآثارها وإِقامة ندوات حول مؤَلفاتها وأَعمالها وإِعادة طباعتها واستنباط أَفلام منها ومسرحيات وكونشرتُوَات وتنظيم معارض لأَعمالها وملصقاتها.
أَنظُر إِليَّ لأَرى السماء
وبين أَبرز ما افتتَحت به “المؤَسسة” نشاطَها: إِطلاقها سنة 2013 “جائزة ڤـيسلاڤـا شِمبُورسكا” تعطى لأَفضل كتاب شعر بالـپـولونية يكون صدَر في السنة الفائتة، أَو لكتاب شِعر مترجَم إِلى الـپـولونية، كما تقرِّرُ لجنة دولية للجائزة مُشَكَّلَة من نقَّاد وأُدباء ومترجمين إِلى الـپـولونية.
وعند تسليم جائزة العام الماضي (2020) نَوَّهت اللجنة بأَنطولوجيا جديدة صدرت لأَبرز قصائد الشاعرة، تتصَدُّرها قصيدتها الشهيرة “السَماء”، ومطلعها:
“لكي أَرى السماء
ليس لي أَن أَنتظر ليلة صافية قَمَرية
ولا أَن أَنظُر إِلى فوق
فالسماء ورائي، في قبضة يدي، على أَهداب جفوني
السماء تَغمرني وتَرفعني إِلى أَعلى.
قمَمُ الجبال
ليست أَقرب من الوديان إِلى السماء
السماء ليست في مكان أَكثر مما في آخَر
وما يَسقط من عَلٍ
لا يَسقط من السماء إِلى الأَرض
بل من السماء إِلى السماء”.
كلام الصُوَر:
- رجُل يحمل رأْسه في يده
- التمثال ذو العين الزجاجية
- الهرة الأَنيقة “ضيفة” على اللوحة
- من الصَفير تولَدُ نجمة
- كرسي الحكم حلْم القرد كذلك
- نهار تسلَّمَت جائزة نوبل للأَدب
- رئيس الجمهورية ينحني للشاعرة
- وشاح “النسر الأَبيض” يتشرَّف بصدر الشاعرة