إِذا كان من الــنِّــعَــم على الأَديب أَن يرى مؤلَّفاته مطبوعةً كاملة، فمن النِّــعَــم الكبرى عليه أَيضاً أَن تنتقلَ مؤلَّفاته إِلى لغات أُخرى حيةٍ تَفتح له أُفقاً أَوسع على مساحاتِ قـرّاءٍ جُدُدٍ في غير لغته الأُمّ.
هذا ما يَحصل مع فؤاد افرام البستاني إِذ تنتقل مؤَلَّفاته تِباعاً إِلى الفرنسية بعناية ابنه الدكتور حارث يتولّى إِصدارها في منشورات “الدائرة”. ومن آخِر ما أَصدر: كتاب “في بلد الأَمير – قصصٌ وحكاياتٌ من تاريخ لبنان” ترجمه إِلى الفرنسية مع شقيقته مارينا بستاني بيرنوتّـي، وأَصدره في 200 صفحة حجماً موسوعياً كبيراً مُتْقنَ التجليد والورق والطباعة، مزداناً بصُوَرٍ فوتوغرافية من دير القمر وبعض مواقع أَحداث القصص، وبرسومٍ من فادي عرَب مصاحبةٍ أَوّلَ كلّ قصة في الكتاب.
الكتابُ، كما عَنْوَنَ المؤلّف مقدِّمته، “عودةٌ إِلى الينابيع”، لرجوعه إِلى بلدته الأُمّ دير القمر بعد غيابه خمسين سنة عنها، يعيشُ فيها ليالي الشتاء ومسويّات الصيف الـمُقْمرة، ويستعيدُ من طفولته مناخَها وإِطارَها ومحيطَها الاجتماعي، وتلك السهراتِ الشتويةَ الطويلةَ كان يُمضيها على نور قنديل الكاز مستدفئاً بشرارات لَـمّاعة من مَنقَل الحطب.
وبعدما كان في طفولته يَنتظر تلك السهراتِ الشتويةَ مُقَرفِصاً عند مَنقَل الحطب مع إِخوته وأَخواته يُصغي إِلى العم مخايل يَروي حكاياتٍ وقصصاً من أَيام الأَمير بشير فيها البطولةُ والمغامرات، ها هو في هذا الكتاب يُصبِح هو نفسُه الراوي حكاياتٍ وقصصاً من عهد الأَمير في بلد الأَمير، حولَه أَحفادُه يُصغون إِليه كما كان هو يُصغي في طفولته، يَروي لهم ما يُدهش وجوهَهم ويُدَوِّر عيونهم لسماعهم أَخبارَ الأَجداد وشجاعتَهم وتضحياتِهم في المعارك من أَجل بقاء لبنان وتقاليده وتراثه الغنيّ.
تلك الأَخبارُ العجيبة الغريبة جمَعَها ضمن كتابه هذا “في بلد الأَمير” وهو يلي سابِـقَه “على عهد الأَمير”، وفي كلَيهما عودةٌ إِلى الينابيع بعد خمسين سنةً على غيابه عن سهرات دير القمر في زمهرير الشتاء وفي صحو ليالي الصيف.
وبتدوينِها، تلك القصصِ والأَخبار، يَجد فؤاد افرام البستاني أَنه يواصل حِفْظَ التراث اللبناني بأَعلامه ومعالـمه وعلاماته.
في الكتاب ست عشرة قصة: “المملوك الضال”، “زخُّور الشمعوني”، “شمس الأَمير”، “حنا البيدر”، “سرقة كنيسة سيدة التلة”، “بين الأَمير يوسف والأَمير بشير”، “أَمير بدون فرمان”، “الشيخ خطّار والشيخ حمّود”، “الباز والأَسد”، “حريق الدّبّيّة”، “اغتيال آل باز”، “خيبة الـمُعلِّم”، “حوار بدون كلمات”، “المأْمور ذو المفتاح السحري”، “معركة سَنُور”، “أَركيلة ابرهيم باشا”، وخاتِـمةُ النصوص كلمةُ المحامي إِميل بجاني في احتفال الذكرى المئوية لولادة فؤاد افرام البستاني سنة 2006.
وفي نهاية الكتاب ثَــبْـتٌ كاملٌ بأَسماء الأَعلام والأَماكن الواردةِ في نصوص الكتاب.
هكذا، بين دَفَّـتَين تَفتتح أُولاها صورةُ ميدان دير القمر وتَختتم الأُخرى صورةُ قصر بيت الدين، يَنبضُ تاريخٌ حيٌّ من سيرة لبنانَ القرن التاسع عشر، تَـمُرُّ فيه أَحداثٌ صبَغَت تاريخَه بـمَسيرةٍ شاقٌّ بعضُها وسعيدٌ بعضُها الآخر، لكنها في مُجمَلها صفحاتٌ مجيدةٌ من حياة لبنان المرصودِ على الخطَر والهناءة، على الحرب والسعادة، وعلى مواجهة الريح كلّما هبَّت على المنطقة الريح، ويبقى قدَرُهُ أَن يظلَّ واقفاً كأَرزةٍ على قمَّته العليا، تَشهد أَنّ لبنان، كما يراه فؤاد افرام البستاني، وطنٌ ذو إِرثٍ لا تَقوى عليه الأَيام ولا تُزعزعُ جُذورَه ولا جذوعَه أَعتى الأَعاصير.
هـنري زغـيب email@henrizoghaib.com