هنري زغيب
بعض المتاحف يكتفي بالعرض (قطَعًا أَثريةً أَو أَعمالًا تشكيلية)، وبعضها يُصدر مطبوعاتٍ موسميةً لمعارض فيها. على أَن پـاريس، هذه العاصمة المنذورة للفنون، تخطَّت الآنيَّ الموسمي إِلى الثابت الدائم. فمنذ تشكَّلت دائرة “متاحف مدينة پـاريس” (أُنشئَت في 1/1/2013 لتدير شؤُون 14 متحفًا فيها) واكبَتْها دار للنشر تُصدر كتبًا فنية لِما تكون الدائرة نظَّمَتْ من معارض.
معرضان عن كاتبَين
بين أَواخر منشورات الدائرة كتابان عن كاتبَين لهما – إِلى الأَدب شعرًا ونثرًا – كتابات في الفن التشكيلي: شارل بودلير (1821-1867) وأُوسكار وايلد (1854-1900).
عن الأَول صدر كتاب “عَين بودلير” (190 صفحة حجمًا كبيرًا)، وفيه مقالات للشاعر عن معارض في پـاريس، ومقالات ودراسات في شخصيته، ونحو 130 وثيقة عنه بين رُسوم وصوَر من معرض عنه لدى “متحف الحياة الرومنطيقية”.
عن وايلد صدر كتاب “المتهتِّك المطلق” (256 صفحة حجمًا كبيرًا)، وفيه مقالات له عن فناني القرن الخامس عشر قبل أَن ينصرف لاحقًا إِلى المسرح والرواية والشعر. وفي الكتاب ما كان في المعرض عنه لدى “متحف القصر الصغير” (Petit Palais) من صوَرٍ فوتوغرافية له ورسوم وزيتيات ومخطوطات وطبعات أُولى لمؤَلفاته، ومقالات عنه ودراسات وضعها خبراء في أَدبه وشخصيته الغريبة وعلاقاته بالممثلات ونكبته الأَخيرة مع القضاء.
ما يجمع بينهما؟
بعد سبع سنوات على وفاة بودلير بالسِفِلِس عن 46 سنة في باريس، وصل إِليها ابن التاسعة عشرة أُوسكار وايلد مع أُمه (صيف 1874) ونزل في “فندق ڤـولتير” الذي كتب فيه بودلير “أَزهار الشر”، فكتب فيه هو أَيضًا مطوَّلته الشعرية “السْفِنْكْس الغامض” (174 بيتًا)، محاكيًا قصيدة بودلير “القطط”.
كان يجمع بينهما اهتمامُهما المبكر بالرسم. كلاهما دخل الأَدب من النقد التشكيلي: أُوسكار وايلد كان في الحادية والعشرين يوم بدأَ يكتب عن معارض غالري غروسْـڤـينور بين 1877 (سنة تأْسيسها في لندن) و1879. وبودلير كان في الرابعة والعشرين يوم كتب مقاله الأَول عن معرض بـاريس 1845، واستمر يكتب نقدًا تشكيليًّا حتى 1863.
لم يكن مزاجهما التشكيلي متطابقًا. بودلير كتب بشاعرية: امتدح دُلاكروَى متجاهلًا حداثة معاصريه، واتهم صديقه كوربيه بأَن “رسمه ساقط فاسد”، وعزّى مانيه المجروح بعد فضيحة لوحته “أُولمـپـيا العارية”. بينما وايلد كتب بمنطق: آمن بالفن الكلاسيكي وامتدح الرسامين للمرحلة قبل الرافائيلية.
ويجمع بينهما إِتقان اللغتين: بودلير الفرنسي ترجم إِلى الفرنسية قصائد إِدغار آلن پــو، ووايلد الإِيرلندي كتب بالفرنسية مسرحيته “سالومة” سنة 1891.
ويجمع بينهما إِبداع الأَدب: بودلير اشتُهر شاعرًا بمجموعته “أَزهار الشر”، ووايلد روائيًّا بروايته “صورة دوريان غراي”.
النرجسية والرقابة
ويجمع بينهما ذوقُ التغاوي: بودلير النرجسي كان يجلس طويلًا أَمام المرآة. كتب عنه صديقه شارل آسْلينو: “يحب دومًا أَن يظهر بطقم أَسود وسترة طويلة وسروال ضيق وشعر شبه حليق، ويتخذ وقفات غوى أَمام عدسة المصوِّرين”. وكذا وايلد كان يحب أَن يلفت الآخرين إِليه، متغاويًا في شوارع لندن بسروال لَمَّاع وجوارب من حرير وزنبقة في عروة سترته. وحين قام بجولته الأَميركية مُحاضرًا، كان يتغاوى أَمام عدسة المصورين، كما صورته الشهيرة في نيويورك: بشعره الطويل، ونِظرته مفكِّرًا، وسترة طويلة تغرق في معطف عن جانبيه. وذاعت تلك الصورة حتى استخدمها أَحدهم في إِعلان ترويجي.
وتجمع بينهما الفراديس الاصطناعية في تعاطي المخدّرات من أُفيون وحشيشة.
وتجمع بينهما مواجهة الرقابة إِزاء الفضيحة: سنة 1867 ظهرت مجموعة بودلير “أَزهار الشر” (كان عَنْوَنها قبلذاك “السحاقيات”) فحوكم عليها هو وناشره بتهمة “خدش الأَخلاق العامة” و”إِفساد القيَم الدينية”، وصدر الحكم يومها بحذف 6 قصائد من الكتاب.
وسنة 1892 منعت الرقابة تمارين مسرحيته “سالومة” (مع الممثلة ساره برندهارت) بتهمة أَن الموضوع توراتي، والعري فيه ذو إِيحاءات جنسية مَرَضية. وحين صدرت بعد سنتين عدَّل الناشر بعض الرسوم فيها. ثم واجه الكاتب فضيحة أُخرى سنة 1895 حين ادَّعى عليه والدُ عشيقه بتهمة تعاطي عمَل مُشين (اللواط) فصدر الحكْم بسجنه سنتَين مع الأَشغال الشاقة، قضاهما وخرج منهارًا من السجن سنة 1897 عليلًا محطَّمًا، ظلَّ يصارع مرض الصَرع حتى مات، كما بودلير، عن 46 سنة.
… ولبنان يجمع بينهما
تلك أَعلاه، في فرنسا، نقاطُ الشبه بينهما.
ولبنان أَيضًا جمَع بينهما: ففؤَاد حبيش (1904-1973) أَحد أَوائل الناشرين اللبنانيين (أَسس دار “المكشوف” سنة 1935)، كان يحدُس بما يَرُوج بين القراء. لذا أَوكل إِلى صديقه الشاعر الياس أَبو شبكة ترجمة كتاب كميل موكلير عن بودلير (پـاريس 1927)، وأَصدره في سلسلة “أَشهر العشاق” بعنوان: “بودلير في حياته الغرامية”، ثم عاد فكلَّفه ترجمة مسرحية موريس روستان عن أُوسكار وايلد (پـاريس 1935) وأَصدرَها مروِّجًا لها في “المكشوف” على أَنها “قصة الحب الذي لا يجرُؤُ أَحدٌ على ذكر اسمه”.
وكان ذانك الكتابان آخِر ما كتَب أَبو شبكة. لكنه لم يستطع أَن يراهما مطبوعَين: الأَول صدر في آذار/مارس 1947، والآخَر في أَيلول 1947، وكان أَبو شبكة (تمامًا كما بودلير ووايلد توفِّيَا عن 46 سنة) توفي هو الآخر عن 46 سنة في 27 كانون الثاني/يناير 1947.
كلام الصور:
- شارل بودلير المتأَنِّق
- أُوسكار وايلد النرجسيّ
- بودلير بترجمة أَبو شبكة
- وايلد بترجمة أَبو شبكة
- وايلد وبودلير: التغاوي أَمام عدسة التصوير