أَفْرَحني صدورُ طبعةٍ جديدة من “نبي” جبران بترجمة الرائد يوسف الخال.. وهي الثانية بعد الأُولى الْكانت أَصدرَتْها “دار النهار للنشر” سنة 1968، فجاءَت الرابعة تسلسُلًا زمنيًّا بعد ترجمات الأَرشمندريت أَنطونيوس بشير (القاهرة 1926) وميخائيل نعيمة (بيروت 1956) وثروت عكاشة (القاهرة 1966).. وجاء لائقًا بصدورها الاحتفالُ على شرفها في متحف الجامعة الأَميركية – بيروت صادرةً من جديدٍ عن “دار النهار” بإِدارتها الجديدة مع الصديق زياد شبيب الذي ينهض بها على المستوى الأَرقى، وبإِرادة ومبادرة “لجنة جبران الوطنية” التي رئيسُها الجديدُ المحامي فادي رحمة يعمل دائبًا على تفعيل نشاطها.
ويكون أَن دعمَ هذا الصدور تـمَّ بجزءٍ من منحة كان قدَّمها لـ”اللجنة” حاكمُ إِمارة الشارقة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي بعدما حضر افتتاحَ معرض جبران في الشارقة (أَيلول 2021- كانون الثاني 2022)، وأَصغى مليًّا يومها إِلى شروح حافظ المتحف جوزف جعجع، فاغتَبَط لِما سمِعَه وقرَّر المنحة مع ابنته الشيخة بُدور رئيسة الجامعة الأَميركية في الشارقة/رئيسة مؤَسسة “شُرُوق”، وكانت سابقًا ترأَّست “الاتحاد الدولي للناشرين” (أَول سيّدة عربية تولَّت هذا المنصب).
صدورُ “النبي” عن “دار النهار” قبل 55 سنة (في “مشروع إِصدار سلسلة من نفائس الكتب” فترتئذٍ) يأْخذُنا إِلى عميدنا الرائد الأَكبر غسان تويني وكان بين همومه الإِبداعية نشْرُ الثقافة اللبنانية.. وفي مقدمة طبعة “النهار” الأُولى (آذار 1968) جاء بتوقيع “الناشر”: “رأَت دار النهار أَن تضع لـ”النبي” ترجمة جديدة تُسهم مع الترجمات السابقة في تعريب النص وتقترب، إِلى أَقصى حدٍّ ممكن، من روح جبران وأُسلوبه الوجداني الرمزي الذي عُرِفَ به.. وإِننا نشكر للجنة جبران الوطنية سماحَها لنا بإِصدار هذه الترجمة الجديدة، ما يدل على ثقتها بالمترجم واعتقادها أَن تعدُّد الترجمات للأَثر الأَدبي الواحد يَزيد في إِحيائه وتقريبه من أَذواق الأَجيال المتعاقبة”.
هكذا إِذًا: صدرَت تلك الطبعة الملوَّنة الفخمة في 112 صفحة حجمًا موسوعيًّا كبيرًا بـ”تصميم عجاج عراوي” في “300 نسخة مرقَّمة من 1 إِلى 300″، و”3000 نسخة على ورق ممتاز مجلَّدة بالقماش”.
في الصفحة الداخلية الأُولى وَرَدَ: “جبران خليل جبران – “النبي” – وضَعَهُ في العربية يوسف الخال”.. ولم أَقرأْ أَنَّ أَحدًا اعترض على عبارة “وَضَعَهُ في العربية” (بدلًا من “ترجَمَهُ”)، فيما اعترض البعض على اعتمادي في ترجمتي “النبي” عبارة “صاغَهُ بالعربية” (بدلًا من “ترجمة هنري زغيب”).
على أَيِّ حال: نقيقُ الضفادع لم يؤَخِّر ليلةً طلوعَ القمر، والآراء الموتورة لم تُكبِّل يومًا انتشارَ كتاب.. وها هي ترجمة يوسف الخال، الممتازةُ الأَمانةِ الـمُشْرقةُ السبْك، تشقُّ طريقها من جديد في طبعة جديدة لأَجيال جديدة لم تكن وُلدت بعد عند صدور الطبعة الأُولى سنة 1968، ليقرأَ الجدُد في نص يوسف الخال دقَّتَه في نقْل عبارة جبران الإِنكليزية بالومض العربي الذي اشتُهر به الخال، وبأُسلوبه الذي ابتعد لُمَحًا عن رومانسية جبران ليصبَّ في اقتضابِ ما اكتنزه الخال من شعر أَميركي تأَثَّر بشعرائه وخصوصًا في مجلة Poetry التي أَسسَتْها في شيكاغو سنة 1912 الشاعرة الأَميركية هارييت مونرو (1860-1936)، حتى إِذا عاد يوسف الخال من عمله في نيويورك أَسَّس في بيروت سنة 1957 مجلة “شعر” تمامًا على صورة المجلة الأَميركية حجمًا وشكلًا ومضمونًا.
يبقى أَن عبارة “وضَعَهُ في العربية” يوسف الخال، أَو “صاغَهُ بالعربية هنري زغيب” تبقى بدون مضمون إِن لم تكُن خادمةً النصَّ الأَصلي بتَفَرُّد.. فليس في الترجمة صوابٌ أَو خطأٌ بل فيها احتمالات متعدِّدة، شرط أَلَّا تَخرُج في بلادة النقْل الحرفي، بل أَن تُصاغَ لتَخرجَ بأُسلوب المترجم الخاص وشخصيَّته المغايرة.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com