هنري زغيب
تجذبُني إِلى أَدب المرأَة شجاعتُها بمواجهة “التابو” في مجتمع ذكوريّ يخنُق كلمتَها اجتماعيًّا أَو سياسيًّا أَو حزبيًّا أَو حتى وطنيًّا، كأَنما الكلمة فيه معقودة للكتَّاب دون الكاتبات، والناشطين دون الناشطات.
وفي تاريخ الأَدب، عربيِّه خصوصًا وعالميِّه عمومًا، كاتباتٌ تجرَّأْنَ على محرَّمات مجتمعهنَّ وممنوعاته ومحظوراته، فَلَقِين عذابًا نفسيًّا أَو معنويًّا، وقد يبلغُ حتى الجسديَّ كما حال الكاتبة الثائرة التي أَكتب عنها اليوم. لم أَكتشفْها إِلَّا قبل مدةٍ، شدَّني إِلى قراءَتها نضالُها العنيدُ لتحرير المرأَة في مجتمعها، فسَحَقَها مجتمعُها حياتَها، حتى إِذا تغيَّر فيه النظام عادَ فرفعَها، بعد غيابها، إِلى حضور دائم.
ثائرة منذ صباها
هي أُولى كاتبات أَلبانيا موزين كوكالاري، المناضلة الوطنية لإِخراج بلادها من الظُلمة والظلامية. منذ صباها الْتَزمَت العمل الوطني، فعاقبها النظام الشيوعي بسجنها ثُلثَي عمرها محرِّمًا عليها الكتابة، كأَيِّ نظام توتاليتاري تخيفه الكلمة أَكثر من القذيفة.
منذ ولادتها (10/2/1917 في أَضَنة) نشأَت صغيرةَ أُسرةٍ أَلبانية مثقَّفة وناشطة وطنيًّا. وحين عادت سنة 1920 من تركيا إِلى أَلبانيا (وكانت استقلَّت عن الأَمبراطورية العثمانية سنة 1912)، نشأَت على ميل باكرٍ إِلى الثقافة والأَدب الأَلباني، تغذيها قراءاتُها لدى مكتبة شقيقها وسيم في العاصمة تيرانا.
بواكير مقالاتها بدأَت منذ دراستها الثانوية. وأَكملت سنة 1939 دراستَها العليا في الأَدب لدى جامعة لا ساپيانزا في روما، مدوِّنةً يومياتٍ (“حياتي في الجامعة”، صدرت لاحقًا سنة 2016) وتخرَّجت واضعةً أُطروحتها عن البطل الوطني نعيم فْراشيري (1846 – 1900) الكاتب الداعي إِلى استقلال أَلبانيا الذي تحقق بعد موته، فكرّمتْه سنة 1996 بإِصدار صورته على ورقة نقدية أَلبانية من فئة 200 لِكْ.
واصلت موزين حياتها الأَدبية فأَصدرت سنة 1939 “كما تقول جدتي” كتابًا باللهجة التوسكية المحلية الجنوبية، فيه 6 قصص قصيرة مستوحاة من الفولكلور الأَلباني، تروي قصصًا موجِعة من حياة نساء بائسات عنَّفَهُنَّ مجتمعُهُنَّ الذكوري. وبهذا الكتاب تكرَّست موزين أَوّل كاتبة في أَلبانيا. وهي وصفَت كتابها بأَنه “صورة عالم من الماضي تسرد الطفولة وتدرُّجَها حتى السنوات الأُولى من الزواج في حياة نساءٍ غلَّلَهُنَّ التعصب الذكوري بسلاسل حديدية من العبودية”.
من الأَدب إِلى النضال
من تضلُّعها بالإِيطالية وضعت سنة 1944 قاموسًا إِيطاليًّا-أَلبانيًّا، أَتبعَتْه في السنة ذاتها بمجموعتَين قصصيَّتين: “كيف كانت الحياة ترتجف” و”في كنَف البيت”، مع رسوم فنية بين القصص.
ولم تصرفْها حياتها الأَدبية عن النضال الوطني. فمنذ دراستها الجامعية في روما إِبّان الحرب العالمية الثانية، انضمت إِلى حركات ضد الفاشية وضد الشيوعية. وبعودتها إِلى أَلبانيا حافظَت على التزاماتها السياسية، وساهمَت سنة 1943 في تأْسيس “الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، وتصدَّرت زعامتَه في سنواته الأُولى، مساهِمةً في تحرير جريدته الرسمية “صوت الحرية”، إِلى نشْرها مقالاتٍ نضاليةً هادفةً في مجلة “المرأَة الأَلبانية”.
في تلك السنوات الناشطة من نضالها، كانت تتردَّد إِلى مكتبة شقيقها وسيم التي تحوَّلت مركز اجتماعات سرية للمثقَّفين والأُدباء والفنانين والمناضلين في سبيل استقلال أَلبانيا، الفكرة الرئيسة في نشاط موزين.
من النِضال إلى النَكال
سوى أَن تلك الاجتماعات السرية انكشفت، وما إِن تسلَّم أَنور خودجا (1908 – 1985) رئاسة الحزب الشيوعي الأَلباني سنة 1944، حتى بدأَ ينكِّل بأَخصام الشيوعية ويتخلَّص منهم، فأَعدم في 22/11/1944 شقيقَي موزين (ممتاز ووسيم) دون أَيِّ محاكمة. روَّع هذا الإِعدامُ شقيقتَهما الكاتبة فراحت تنشُر المقالات العاصفة. وفي 27/1/1946 وجَّهت رسالة إِلى الحلفاء في العاصمة تيرانا تطالب بالانتخابات الحرة، فأَصدر خودجا الأَمر باعتقالها. وفي الجلسة العاجلة الوحيدة لمحاكمتها أَعطاها القاضي، صُوَريًّا، حقَّ المدافعة في خمس دقائق فقط، فوقفَت تقول: “ليس لي أَن أَكون شيوعية كي أُحب وطني. إِني أُحبُّه وإِني لستُ شيوعية. تتبجَّحون أَنكم ربحتم الحرب، وتعمدون إِلى سحق كلِّ مَن تسمُّونهم أَخصامكم السياسيين. أَنا لا أُفكر مثلكم، وأُحب وطني بدونكم، وأَعرف أَنكم تعاقبونني على أَفكاري وعلى حبِّي وطني”.
و”عاقبوها”… في 6/6/1946 صدر الحْكم بسجنها 20 سنة. التهمة: “مخرِّبة وعدوَّة الشعب”. ونفوها إلى سجن بعيدٍ قاست فيه أَفظع أَنواع التعذيب الجسدي. وظلَّت على أَفكارها وقناعاتها الوطنية.
سنة 1964، قبل سنتين من نهاية العقوبة، صدر الأَمر بنقْلها إِلى الحجْر الجَبْري في مدينة رِيْشِن شماليَّ البلاد، مع منعها قطعيًّا من الكتابة، وعقوبة أَشغال شاقة بكنْس الشوارع يوميًّا. ومع ذلك، تمكَّنت من وضع كتاب سرّيّ: “كيف وُلد الحزب الديمقراطي الاجتماعي” سردَت فيه التزاماتها السياسية وأَكَّدت على قناعاتها.
وفي سنوات الحجْر ظهرت عليها سنة 1980 عوارض سرطان قاسية، إِنما ظلَّ ممنوعًا عليها أَيُّ علاج وأَيُّ دواء، حتى ماتت وهي تصرخ من آلام رهيبة في 14/8/1983.
الاعتراف المتأَخر
على عادة أَهل النضال الذين لا تقدِّر بلدانُهم قيمتَهم إِلَّا بعد غيابهم، كرَّمتْها أَلبانيا لاحقًا (2017) بإِصدار طابع من فئة 10 لِكْ، عليه صورتُها كـ”مناضلة وطنية”. وكان رئيس أَلبانيا ساري بيليشا (من “الحزب الديمقراطي”) أَعلنَها سنة 1993 “شهيدة الديمقراطية الوطنية”. وبعدها تم تأْسيس مدرسة باسمها، وبادرت جامعة أَلبانيا الوطنية إِلى إطلاق اسمها على مكتبتها الجامعية.
هو القدَر يَصرع الأَبطال في التاريخ، لكنهم يصرعونه… بالخُلود.
كلام الصور:
- موزين كوكالاري في قوس المحكمة
- موزين المناضلة قبل اعتقالها
- الطابع باسمها سنة 2017
- المكتبة باسمها في جامعة أَلبانيا الوطنية (1994)
- شهادة نهاية الدروس الثانوية (1937)