منذ طلَّقتُ التأْليف المدرسي قبل نحو ربع قرن، ما عدتُ تابعتُ المناهج الرسمية والكتب المدرسية وما فيها من نُصوص ومَن فيها من أَعلام.. لذا ليس في ذاكرتي إِلَّا سلسلة كنتُ شاركتُ فيها (“عقود الكلام” و”عقود الأَيام”) تُرصِّع كثير ما في هذا المقال.
ما أَرمي إِليه هنا : الشعرُ في المدارس، حضورُه في ذاكرة التلامذة، وأَثرُه في بَلْوَرة محفوظاتهم وذائقتهم الجمالية.. وذلك يكون في الكتاب المدرسي، أَو في ما يقترح مُدرِّس العربية من قصائد يتلقَّفها التلامذة حفظًا فإِلقاءً، على أَن تكون سائغة لا تنفِّر التلامذة من الشعر والكتاب واللغة العربية.. وفي شعرنا اللبناني نصوصٌ سلسةٌ للحفظ، وشعراء يجب تعرُّفُهم بهم سيرةً ونتاجًا.
أَتوقف تحديدًا هنا عند شاعر أَرى ضروريًّا دخولُه في ذاكرة ناشئتنا : الياس أَبو شبكة.. وعرفتُ أَنَّ له في المنهج الرسمي الثانوي حضورًا جانبيًّا في محور “الرومنسية” (قصيدته “إِجرح القلب واسْقِ شِعرك منه” في كتابه “غلواء”)، وله في مادة الإِنسانيات حضورٌ يتيمٌ في قصيدة “الناسكة” (من مجموعته “نداء القلب”) عند محوَر “التجديد في أَساليب التعبير الشعري”. أَما أَن يكون له حضورٌ كَـــ”عَلَم” مستقلّ، فهذا تدبير يلزَمه اتفاق (قد يستَنْسِل شِجارًا) في معادلات 6و6 مكرَّر اللبنانية.
ما اكتشفْتُهُ أَخيرًا، إِبَّان تحضيري حدَثًا قريبًا عن أَبو شبكة، أَنَّ قصيدته “أَلحان الشتاء” موجودة بصوت فيروز وتلحين الأَخوين رحباني (من مطلع الخمسينات)، وأَنَّ له من مجموعته “الأَلحان” (1945) قصائدَ وضعَ أَلحانَها الأَب يوسف الأَشقر وإِياد كنعان وجوزف مراد وفادي أَبي هاشم، وله حتى في السُودان قصيدةُ “الفلَّاح” مُلَحَّنةٌ على الإِيقاع السوداني بصوت أَحد المغنِّين.
هذا لأَقول إِن شعر أَبو شبكة (كان يصرُّ أَن يُكتَبَ اسمُهُ “أَبو شبكة” في جميع حالات الإِعراب) يَدخل أَسرعَ إِلى ذاكرة التلامذة حين يترافَقُ شعرُه مع اللحن فيُصغون إِلى القصيدة مُلَحَّنةً مُغنَّاةً، ثم يقرأُونها بشرحٍ معبِّرٍ من الـمُدَرِّس أَو الـمُدَرِّسة، فتصبح القصيدة صديقةَ التلامذة، وترافقُهم إِلى بيوتهم ودفاترهم وكتبهم ودروسهم وذاكرتهم.. وفي الصفوف الثانوية يَجمُل بمسؤُولي المدارس أَن يجمعوا تلامذة المرحلتَين المتوسطة والثانوية ويصحبُوهم إِلى “بيت الشاعر” (“متحف الياس أَبو شبكة” في بلدته الأُم زوق مكايل) فيتعرفوا إِليه في جوِّه المباشِر، ويصبح لاحقًا رفيقهم في أَحاديثهم وفروضهم المدرسية والحوارات مع الآخرين، وربما لاحقًا في أَبحاثهم الجامعية.. ذلك أَن اعتيادَ تلامذة المدارس منذ الصفوف الطريَّة على الشعر والنغَم يُهَيِّئُهُم لدخول الجامعة بذائقة جمالية غنية.
أَعرض أَبو شبكة نموذجًا، لكنَّ ما قلتُه عنه ينسحب على شعراء وأُدباء لبنانيين آخرين، وإِنْ ليس لجميعهم بيوتٌ باتت متاحفَ كما لجبران وميخائيل نعيمة وأَمين الريحاني ومارون عبود والأَخطل الصغير.. المهم أَن يتعرف التلامذة إِلى قصائدهم ونصوصهم (مع الأَغاني الطالعة منها حين قصائدُهم مُلحَّنةٌ ومُغَنَّاة) كي يقتربوا منهم ذهنيًا ونفسيًّا وحضوريًّا، فلا يعود الشاعر في كتابهم من قارَّة نائية عنهم لا يَبْلُغونها.. ومتى اقتربوا من أَعلامنا الخالدين يقتربون من تراث لبنان الأَدبي ومن حضارة لبنان الإِبداعية فلا يعودُ لبنان في بالهم وطنًا مكسورًا لا يعرفون عنه إِلَّا ما يُشاهدونه مساءً من قرَف نشراتٍ إِخباريةٍ ناعيَة ناعبَة تجعل التلامذة يظنون أَنْ ليس لبنانُ سوى هذا، وليس في لبنانَ إِلَّا زمرة سياسيين هم أَحقرُ من أَن يستحقُّوا شرفَ الانتساب إِلى لبنان الإِبداع.
بعد الذي أَعرفُه عن مستوى الطلَّاب الجامعيين في اللغة العربية (إِذ حين كانوا تلامذة ثانويين لم يُعطَوا أَن يتْقِنُوها ويحبُّوها) بات ضروريًّا، منذ هُم في التكميلي فالثانوي، أَن يبدأُوا بتَذَوُّق اللغة وجمالاتها وأَعلامها.
وليس لهم في بلُوغ ذلك سوى الشعر.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com