هنري زغيب
بين السيارات التي أَقتَنيها منذ أَكثر من نصف قرن (بدءًا من 1967)، تبقى “السيتْروين” عندي أَفضلَها وأَجملَها، لمزايا فيها ليست وحيدَتُها أَنَّ محركها، عند تشغيله، يحمل جسمها عاليًا عن الأَرض فتعلو وتجري في نعومة وسلاسة، حتى إِذا انطفأَ المحرك أَراح جسدَها هابطًا إِلى الأَرض، كدجاجة “تقُفُّ” على البيض وتغطيه بجناحيها.
تلك التكنولوجيا الفريدة كانت دومًا تدعوني إِلى البحث عن “صانع” هذه السيارة الذي كان رائدًا في عصره قبل قرن من اليوم، وما زالت أَفكاره تبُثُّ الطليعية بعده في مهندسي هذه السيارة. وها إِني أُشرك اليوم قرائي بما أَعرف عنه وعن ريادته الصناعية السبَّاقة التي طوَّرَت بعده كل صناعة السيارات.
من هو؟
إِنه أَندريه سيتْروين. وُلد في پاريس سنة 1878، ونشأَ متأَثِّرًا باثنين: جول ڤيرن ومؤَلفاته الرؤْيوية وسَّعت خياله العلْمي، ونشُوب برج إِيفل في قلب باريس جعلَه يحلُم بدراسة الهندسة ليواصل التحدي الجديد الذي تفرضه الثورة الصناعية الناشئة.
هكذا انتسب إِلى معهد “الپوليتكنيك” الشهير، وتخرَّج منه سنة 1900 مهندسًا ميكانيكيًّا بالمرتبة 62 بين 250 ناجحًا، وأَخذ يحمل في ربيعه الثاني والعشرين طموحات تجعله سبَّاقًا في عصره. وفي عام تخرُّجه اتفقَت له رحلة إِلى پولونيا، ولَفَتَتْهُ فيها صناعة التُرُوس المسنَّنة، فاشترى امتيازَها من الروس، وعاد إِلى فرنسا منشئًا سنة 1905 مصنعه الأَول بشهادة إِنتاج التُرُوس مُصَنِّعًا أَسنانها مزدوجةً، جاعلًا إِياها من الفولاذ الصلب تسهيلًا لطواعية استخدامه، خصوصًا في تصنيع الدفع الخلفي للسيارات وفي محركات المركبات البحرية، فشاع خبر مصنعه وازداد الطلب على مسنَّناته.
من السيارات إِلى القنابل
كان في الثالثة والثلاثين حين بدأَ اهتمامه بصناعة السيارات. فشركة “مورْسْ” للسيارات (أَسسها لويس مُورْسْ سنة 1895)، كانت شهيرة في مطلع القرن العشرين بإِنتاج السيارات السريعة. ولدى وقوعها في خسارة فادحة، استعانت بأَندريه سيتروين وعيَّنَتْه مديرها العام سنة 1906، فابتكر لها أَكثر من شكل وطراز حتى نهض بها، وفي ست سنوات فقط عادت تُضاعف مبيعاتها وأَرباحها وبقيت كذلك حتى 1914.
اندلعت الحرب العالمية الأُولى سنة 1914 وانخرط سيتروين في الخدمة العسكرية ملازمًا في مصنع للذخيرة الحربية. لاحظ النقص الفادح في الذخائر، وكبرت الحاجة إِليها ففاتحه بالأَمر مسؤُولُ التسلُّح في وزارة الدفاع. وبخبرته في هذا الفرع من الصناعة، اشترى أَندريه سيتروين ميدانًا واسعًا عند رصيف مرفإِ جاڤيل (لاحقًا حمل اسمه وأَصبح “رصيف أَندريه سيتروين”) جنوبي غرب پاريس، وأَنشأَ فيه مصنعًا للقنابل بلغ إِنتاجه نحو 50 أَلف عبوة متفجرة في اليوم. ولأَن الرجال كانوا على الجبهة يحاربون، استعان سيتروين بعدد كبير من النساء العاملات مسجِّلًا بذلك سبَقًا اجتماعيًا، أَضاف إِليه فكرة دفع الشهر الثالث عشر هدية للعاملات والعمال. ومع نهاية الحرب كان المصنع أَنتج 23 مليون مليون قنبلة، ما جعل لسيتروين شهرة فائقة.
سيارة جديدة بكلفة زهيدة
عند نهاية الحرب، وكان سيتروين متأَثرًا بـمُصَنِّع السيارات هنري فورد (الْتقاه قبلذاك في الولايات المتحدة)، حوَّل مصنعه إِلى صناعة السيارات، فأَنتج أَول طراز لسيارة كانت الأُولى في أُوروپا من حيث الإِنتاج اليومي، ما خفَّض من كلْفتها وسهَّل حلمَ اقتناء السيارة لعدد أَكبر من الشارين. ولأَنه اعتمد الصحافة للإِعلان عن سياراته، اشترك في معرض السيارات الخامس عشر في پاريس سنة 1919، وملأَ الصُحف إِعلانات عن تصنيعه سيارة ثمنها 7250 فرنكًا (نصف ثمن أَيِّ سيارة أُخرى فترتئذٍ)، وعن إِمكان التقسيط في الدفع، وعن تجربة قيادة السيارة – قبل شرائها – لِمن يرغب. كان بذلك سبَّاقًا فأَقبل الزبائن بكثرة، وعمَّت شهرته، وزادت مبيعاته بشكل لافت حتى غدا الأَول في أُوروپا لصناعة السيارات والثاني في العالم. عند هذا الازدهار في الانتاج، اشترى “شركة مورْسْ”، وفتح فروعًا لمصنعه في فرنسا، وفروعًا للتجميع في أُوروپا.
سنة 1920 بلغ إِنتاجه 30 سيارة في اليوم. وسنة 1926 أَنتج أَول سيارة في أُوروپا من الفولاذ كليًّا فذاعت صناعته كثيرًا، وسنة 1929 بلغ إِنتاج شركة سيتروين 400 سيارة في اليوم ما جعله ثاني أَكبر مُصَنِّعٍ في العالم.
مات ولم يَرَ آخر اختراعاته
لكن هذا العدد الضخم عهدئذ، بتوسيع العمَل والفروع والعمَّال والإِنتاج، كلَّفه ديونًا مرهقة اضطر سنة 1933 أَن يضاعفها أَكثر لازدهار صناعي أَكبر، ببناء مصنع جديد كبير جدًّا لصيقٍ بالأَول عند رصيف جاڤيل. لكن المصارف لم تعد تُمْهِله، واضطرت أَكبر الجهات الـمُدينة: شركة ميشلان للدواليب، أَن تتسلم شركة سيترون سنة 1934 إِنقاذًا العمال والإِنتاج، وصفَّت حقوق صاحبها المهندس العبقري، ما أَوقعه في كآبة قاتلة.
وفي 3 تموز/يوليو 1935 توفي أَندريه سيتروين مُصابًا بسرطان المعدة، قبل أَن يتمتَّع برؤْية نجاحه الأَخير الأَول من نوعه: السيارة ذات الدفْع الأَمامي.
السيتروين تنقذ ديغول
في آب/أُغسطس 1962، كان الفضل لسيارة السيتروين الرئاسية أَن تنقذ حياة الرئيس الجنرال ديغول، بطرازها الدينامي الهوائي الفريد وسَحْبَته السريعة. يومها كان ديغول متوجهًا، الساعة 7:45 مساءً، إِلى مطار ڤيلَّاكوپليه ليطير منه إِلى بلدته كولومبيه. وبوصوله إِلى بلدة كْلامار، على مسافة قريبة من المطار، كان 13 رجلًا (من منظمة سرية مسلَّحة تعارض استقلالَ الجزائر عن فرنسا) يكمنون للجنرال. بدأَ إِطلاق النار فانفجر فورًا الدولاب الخلفي. ومن أَصل 187 طلقة لم تُصِب السيتروين إِلّا 14 رصاصة. أَسرع السائق في قيادته مُكْمِلًا بثلاثة دواليب لأَن السيتروين تتميَّز بقدرتها على السير بثلاثة دواليب. وظلَّ يسرع، محاطًا بسيارات الموكب الرئاسي، حتى بلغ المطار. وصدرت الصحف في اليوم التالي مُعَنونةً أَن “السيتروين أَنقذَت حياة الرئيس”.
كلام الصُور
- أَندريه سيتروين مع أَول سيارة صنَعَها (1919).
- أَندريه سيتروين المخترع الرائد
- الدولاب المثقوب في سيارة ديغول الرئاسية
- رصاصات أُخرى في السيارة الرئاسية
- سيتروين (1929) وملْصق إِعلاني عن سياراته