هنري زغيب
إِذا كان الحب عن قربٍ بات اليوم من الممنوعات “كورونيًّا”، فقبْل قرن من اليوم، كانت لوحات سوريالية تحدُس بما بلغناه اليوم من حُب عن بعد، من قبْلة مستحيلة تفصل بين شفاهها مسافاتٌ ومساحاتٌ ومساقات.
كيف ذلك؟
منذ أَعلن أَندريه بروتون (1896-1966) “مانيفست” الحركة السوريالية سنة 1924 بعد انفصاله عن الحركة “الدادائية”، أَطلق الوساعةَ حرَّةً للكلمة والريشة والإِزميل، معتبرًا الحركة الجديدة “آلية ذاتية بحتة للتعبير، شفويًّا أَو كتابيًّا أَو بأَي واسطة أُخرى، عمَّا يمرُّ في البال من فِكَرٍ جامحة بدون أَيِّ منطقٍ أَو وازعٍ، وخارجَ كل اهتمام أَخلاقي أَو جماليائي”.
هكذا توسعَت تلك الحركة باعتناقِ معتقداتٍ في “واقع خلف الواقع” (من هنا تسميتُها “سوريالية”) كانت حَــتَّــئِــذٍ مُهْمَلَة أَو غير متاحة، بأَشكال من التعبير مطْلَقَةِ الحرية، سعيًا إِلى قيَمٍ جديدة أَو مبتَكَرة.
غالبًا ما كان في نتاج السوريالية حدْسٌ غريب مبهَم بما قد يحصل مما لم يكن أَركانها يريدون بلوغه أَو يظنونه قد يتحقَّق. نتذكر هنا (ولو قبل السوريالية) كتابات جول ڤـيرن (1828-1905) التي كانت من الخيال الأَوسع لدى صدورها، ثم راحت تتحقق أَرضًا وبحرًا وفضاءً.
من هنا أَن الخيال السوريالي ليس “مجانيًّا” كما يخال البعض، بل يفتح الأُفق وسيعًا على رحابة الخيال الحر في التهويم إِلى فضاءات لا تخضع لأَيِّ منطقٍ مأْلوف.
السُوريالـيُّ الغريب
في هذا السياق تندرج أَعمال الرسام السوريالي البلجيكي رينه ماغْريت (1898-1967) وفي أَعماله غيرُ تبريرٍ لما آل فنُّه إِليه. فطفولتُه كانت بائسةً في حضور والِدٍ متهتِّكٍ وفي غياب والدةٍ أَودى بها يأْسها من زوجها إِلى الانتحار سنة 1912 غرَقًا في نهر السامْبْر (ينبع من شمال فرنسا ويصب في بلجيكا). وإِذ انتقلَ، بعد سنوات مراهقة مضطربة، ليُمضي بعض شبابه في پـاريس لدى فورة سورياليَّتها، وزامل فترةً أَركانها: أَندريه بروتون، بـول إِيلُوار، سلـڤادور دالي. سوى أَنه، بمزاجه الغريب، تخاصَم معهم وعاد إِلى بلجيكا يُمضي بقية حياته.
بين أَعماله الكثيرة المدهشةِ غرابةً سوريالية، وفيها الكثيرُ من الحدس عصرئذٍ بما بلغناه اليوم، أَكتفي الآن باستعراض أَربع لوحات رسمها في سنة واحدة : 1928، يُذهل فيها تَـخيُّلُهُ ما بات اليوم علامة أُولى من علامات قرننا الحادي والعشرين: التباعدُ في زمن كورونا.
اللوحاتُ الأَربع، عن قبلةٍ “لم تكتمل” بين عاشقَين، لمسافةٍ بين الشفاه، أَو لغلالةٍ على وجهَيهما، تتميَّز بالبُعاد الغريب، كأَنها لقطات مكبَّرة في بعض الأَفلام لقبلات مستحيلة أَو مموَّهة. وكان السورياليون مأْخوذين بالأَقنعة والتمويه وما ينبض حافيًا خلف المساحات الظاهرة. وهكذا ماغريت: كان مسحورًا بالأَشباح، بالظلال، لأَشخاص (كما في الروايات والأَفلام) تبقى وجوهُهم سرًّا أَو لُغزًا.
قد يكون في صِبا ماغريت تفسير القتامة في أَعماله: انتحار أُمه واكتشاف جثَّتها في النهر، قميص النوم ملتفٌّ على وجهها، غير واضح إِن كانت هي لفَّت به عنقها ووجهَها كي لا ترى وجه الميتة التي اختارتْها طوعًا، أَم انَّ تيار النهر لفّ القميص على وجهها. الواضح أَن الحادثة طبعَت الرسام طوال حياته.
القبلة المستحيلة
وضَع ماغريت سنة 1928 أَربع تنويعات في أَربع نسخ لـ”القبلة المستحيلة”، هي التالية:
النسخة الأُولى: قماشة كبرى تلفُّ وجه الرجل والمرأَة معًا في حركة عاطفية لافتة، كأَنهما واقفان مستعدَّين لتَلَقّي صورة عائلية لهما، وهما في غابة وراءَهما وصولًا إِلى فلذة من بحرٍ في البعيد. والقماشة تلفُّ رأْسيهما، مشدودةً إِلى الخلْف، تهدل حتى كتفَيهما كما حبْل خانق. والمشهد، برغم العفوية الحميمة في عناصره، يوحي بنوع من الاستلاب أَو الاختناق أَو حتى الموت، فلا يستطيع العاشقان أَن يتحاورا أَو يتلامسا، لأَن القماشة تجعل الوجهَين كأَنما هما منفصلان أَبدًا.
النسخة الثانية: شبيهة بالأُولى إِنما أَكثر تأثُّرًا وحميمية تأْثيرًا. المرأَة والرجل فيها لابسان متشابهَين، كما في الأُولى، ويقتربان لطبع القبلة. لكن محاولتهما مستحيلة أَيضًا وأَيضًا بسبب القماشة. وعلى عكس المشهد الريفي في الأُولى، هنا الخلفية تجريدية، وقد نتخيَّل فُتحةً على عناصر مخفية عن طبيعة العلاقة بينهما، عناصر قد تخفى حتى على هذين العاشقَين. وحين يتعانقان، أَو يقبِّلان، لا يرى أَحدُهما انفعال الآخر، فالوجهان مغطَّيان تمامًا بقلنسوة سميكة حتى فلا نرى حقيقة نواياهما أَو مشاعرهما أَو استيهاماتهما، مهما تقاربا ومهما كانت المناسبة أَو لحظة شعورهما، فثمة دومًا مسافة فاصلة بقسوة أَيَّا تكن حميمية العلاقة.
النسختان الثالثة والرابعة: لا قماشة فاصلة فيهما، وتأْثيرهما في المتلقي ليس غريبًا كما في النُسختين الأُولَيَيْن، مع أَن الإِيحاءَ شبيه بهما. الرجل والمرأَة هما اللذان في النسختين الأُولَيَيْن: المرأَة ترتدي الفستان ذاته، وزاوية انحناء وجه الرجل هي ذاتها كما في النسخة الأُولى، إِنما لا نعرف إِن كان الرجل هو ذاته، لأَن جسدَه مخفيّ. فما تُرى يعني ذلك في بال ماغريت: أَيكون رأْسه مع هذه المرأَة فيما جسده، وطبعًا قلبه، مع امرأَة أُخرى؟ أَيكون مشهدَ خيانة؟ أَم هو، ببساطة، مشهدُ استحالةِ أَن يكون العاشقان جسديًّا معًا، مع أَنهما متناغمان معًا، ويمكن أَن يتلامسا أَو يقبِّلا بدون فاصل. فهل هما فعلًا حميمان، ولو بدون جسد الرجل؟
نَرى ما نُريد لا ما يُراد لنا
أَسئلة تتوالى في ذهن المتلقِّي، قد يكون جوابُها في وصف ماغريت ذاته محورَ أَعماله: “لوحاتي صوَرٌ مرئية واضحة لا تحجب شيئًا: توحي باللغز لكنها ليست لُغزًا. والمتلقي أَمام لوحاتي يتساءَل عما تعني. إِنها بكل بساطة: لا تعني شيئًا، لأَن اللغز لا يعني شيئًا وإِن هو يبقى غير مكشوف. هكذا الفن غالبًا: روائعُ تُرينا ما نرغب نحن أَن نرى فيها”.
في هذا الجوابِ جوابٌ عن كل ملمَح في الفن العالي (شعر، رسم، نحت، موسيقى،…): تلميحٌ لا تصريح، سؤَالٌ باحث دومًا عن جواب، وعلامة استفهام دائمة تحتمل جلَّ العلامات.
كلام الصور:
النسخة الأولى: القماشة الفاصلة
النسخة الثانية: القماشة الرادعة
النسخة الثالثة: الـمُتاحُ غير الـمُتاح
النسخة الرابعة: الجسد الغائب
ماغريت: مظَلَّةٌ لبحر الصيف