هنري زغيب
إِنه اليوم الأَول من السنة الجديدة.
والدخول إِليها في يومها الأَول لا يجمل أَن يكون بذاكرة بيضاء.
الذاكرة واحةُ الذكرى، والذكرى منبعُ التذكار. والتذكار لا يكون إِلَّا بمحفوظات الذاكرة. المحفوظات كانت ورقية منذ عصور عتيقة، ومع تطوُّر العصر باتت، مع الورقية، سمعية وبصرية، وهذا موضوعيَ اليوم.
في نادر المقتنيات، الخاصة لدى ذويها أَو العامة في المكتبات الجامعية والوطنية، أَن نجد قصاصةَ نوتة من بيتهوڤـن، أَو سُطورًا من رسالة لـڤـيكتور هوغو، أَو صفحاتٍ بخط جبران. فكيف لو نجد مقطعًا بصوت بيتهوڤـن، أَو لقطة ڤـيديو لـڤـيكتور هوغو أَو لحديث مصوَّر مع جبران؟
إِنه اليوم عصرُ السمعي والبصري، تتنافس على اقتنائه المصادرُ احتفاظًا وحفظًا وصيانة. والمحفوظاتُ مثلَّثةً: ورقيُّها (حتى الأَمس القريب) وصوتيُّها (حتى الأَمس الأَقرب) وبصَريُّها (حتى اليوم)، هي ذخيرة نحملها من إِرث الماضي في ضمير الحاضر إِلى ذاكرة المستقبل.
الواحات المضيئة
لدينا اليوم في محفوظات مكتبة الكونغرس (واشنطن) أَو “مؤَسسة السمعي البصري” INA (ﭘـاريس) أَو مكتبة الإِسكندرية، وشبيهاتها في مدن العالم وعواصم الدُول، دررٌ وجواهر من أَعلام التاريخ ومعالمه ما يجعل هذا الكوكب أَكثر قابلية للحفاظ عليها كي تستمر فيها الحياة نابضة لا مصنَّمة في ذاكرة بيضاء.
وكانت منظمة اليونسكو (ﭘـاريس) بين أَبرز المؤَسسات التي تنبَّهت إِلى هذا الأمر، فانبرت منذ مطلع عهدها (1945) إِلى “صيانة الذاكرة”، كما أَعلن البريطاني جوليان هَكْسلي (1887-1975) مديرُها الأَول (1946-1948)، وكما صرَّح المكسيكي خايمي توريس بودِت (1902-1974) مديرُها الثاني (1948-1952): “المحفوظات ليست مقابر ضخمة للموروثات بل واحات مضيئةٌ لاستمرار الوعي البشري”.
ومع تطوُّر العمل تلبيةً حاجاتِ الذاكرة الجماعية، أَنشأَت اليونسكو لجنة “ذاكرة العالم” (1992) وواكبت هذا التطوّر مع تكريسها سنويًّا (منذ 2005) السابع والعشرين من تشرين الأَول (أُكتوبر) “اليوم العالمي للتراث السمعي والبصري”، لحفظ الموجودات السمعية البصرية المهمة في العالم وإِنقاذها من أَحداث أَو حروب عرَّضتها للتلف أَو للاحتراق أَو للضياع أَو للنهب أَو التشتُّت أَو للاتِّجار غير المشروع، صَونًا ما يهدد المقتنيات الثمينة.
صون الكنوز
هذا التراث السمعي البصري، على الدول اكتشافُه وصَونُه ونشْرُه. فما فيه من كنوز صوَر فوتوغرافية وأَفلام وثائقية وقصيرة وطويلة وتسجيلات صوتية، ما يحفظ رؤْية فريدة لتاريخ كل بلد بما يحمل من ذكريات وشهادات ومعارف وأَفكار وأَحداث وشواهد مثْبتة راسخة موثَّقة ترسِّخُ أُسس الاطلاع المتبادَل بين الدول والشعوب، ويسهّل لقاءات التفاهم والتحاور بين الأَجيال المختلفة كما بين أَفراد الجيل الواحد، وبين المجتمعات المختلفة كما بين أَفراد المجتمع الواحد. فالتراث يربط الأَمس بالحاضر جزءًا من التاريخ البشري الواحد. من هنا ضرورة حفظه وصيانته ونشره، شعورًا بالهوية الحضارية وتاليًا بالانتماء بلوغًا إِلى منافذ الابتكار والإبداع.
هكذا الدول تستقطب جهودها الدؤُوبة لتجميع ما لديها من أَرشيـڤ صُوَر فوتوغرافية وأَفلام وتسجيلات صوتية وبرامج وحلقات إِذاعية وتلـڤـزيونية، تحفظُها في ظروف تقنية تنقذ ما في أَشرطتها من مواد كيماوية يمكن أَن تُتلف مع الوقت، فيشكِّل مجموعُها في دولةٍ والمجموعات المماثلة في دول أُخرى، هيكلًا أَساسياً لصَون التراث العالمي، ويتيح للأَجيال التالية فرص الاطِّلاع على عناصر المجتمع وتواريخ المجتمعات الأُخرى، حتى تتكامل تباعًا عناصرُ الفسيفساء الرائعة لتاريخ البشرية.
هذا هو الدور الرئيس لوزارات الثقافة والإِعلام في حكومات الدول، كي تنقذ هذا الإِرث العظيم باستقطاب أَحدث تكنولوجيات العصر تهيئةً للأَجيال كي تواصل اكتشاف هذا التراث واستحضاره ونشره، وتأْكيد هوية البلد. وهذا يتطلب تكريس وقت وجهد وتخصيص مجموعات خبراء من أُمناء مكتبات ومحفوظات وقيِّمين على رعايتها، ممن تضْمن خبراتهم واختصاصاتهم الحفاظ على التاريخ المختبئ سعيدًا في الأَفلام القديمة وأَرشيـڤ محطات الإِذاعة والتلـڤـزيون، بنقل الأَشرطة السمعية والبصرية من ظروفها في التقنيات البائدة إِلى تحديث حفظها لإِحياء الماضي المشوَّش الحفْظ ببهاء تقنيات الحاضر صوتًا غير مشوَّش وصورة غير مهزوزة. من هنا تقْنية الرقمنة، وهي الأَحدث في الحفظ الآمن والأَمين والموثَّق، تفاديًا كلَّ تآكل وتلف قد ينجمان عن عدم الصون العلْمي في المكتبات السمعية البصرية، لإِنقاذ المحفوظات الوطنية، سمعيِّها والبصريّ، من خطر الضياع.
نافذة على العالم
ومن المحفوظات الـمُرقْمَنَة مباشرةً إِلى شبكات الإِنترنت، فتصبح هذه المحفوظات مفتوحة من أَيِّ مكانٍ في العالم إِلى العالم كله، متاحةً للجميع، فتتعمَّم الثقافة وينتشر العلم وتصبح الآفاق المعرفية جسر وعي وتفاهم بين الشعوب. هكذا الشبكاتُ الإِلكترونية وفروعُها من منصات وتطبيقات وتسهيلات تجعل منابع التراث متاحةً في غرفةٍ أَمام شاشة الكومـﭙـيوتر أَو في قبضة اليد على شاشة هاتف محمول.
مع اليوم الأَول من السنة الجديدة، فلْتكُن 2021 ماحيةً سابقَتَها المشؤُومة، ولْتعمل حكومات الدول ومؤَسساتها الثقافية على صون المحفوظات السمعية والبصرية المهدَّدة بالاندثار حمايةً هوياتِ العالم من الزوال، ولْيكُن التراث الموثَّق سمعيًّا وبصريًّا شهادةَ التاريخ النابضةَ الشاهدةَ على نتاج البشرية الفكري ومسارها التاريخي وتطوُّر اللغات والثقافات والشعوب.
وليس أَجمل من تأَمُّل الحياة السائرة عبر نافذةٍ على العالم، تنفتح أَمامنا من شاشة صغيرة على مكتبنا أَو في قبضة يدنا، نطل منها على الدنيا المفتوحة، ونقوم بجولات بعيدة سعيدة مفيدة فيما نحن هانئون مستريحون في مقعدنا نتابع حركَة العالم.
كلام الصُوَر
1 – أَصوات في ذاكرة الميكروفون
2 – وُجوه في ذاكرة الكاميرا
3 – كنوز في هذه الأَشرطة
4 – التخزين في شُروط علْمية
5 – الحفْظ تَرقيمًا إِلكترونيًّا