هنري زغيب
هُواة النحت في العالم يعرفون النحتَ في الحجر أَو الرُخام، والنحتَ في الخشب، والنحتَ في الطين، لكنَّ قليلين جدًّا رأَوا منحوتاتٍ من… ورق. هذا الفن بلغَه المبدع الإِنكليزي ريتشارد سْوِيني (38 سنة) واليوم تجول “منحوتاته” الورقية على معظم معارض أُوروپا، آخرها معرض لدى غالري فيكتور فيلكس – لندن (ينتهي مع نهاية هذا الأُسبوع).
البحث عن البُعد الثالث
ولادتُه سنة 1984 في هادِرْسْفيلْد (مدينة كبرى في إِقليم يوركشاير الغربية) لم تكُن في أُسرة إِنكليزية ذات علاقة بالفنون. لكن الفتى ريتشارد، إِذ بلغ الثامنة عشرة وأَنهى دراسته الثانوية، انتسب سنة 2002 إِلى “كلية باتْلي للفنون” يدرس النحت. وفي تعمُّقِه بـما في المنحوتات من أَهمية لــ”البُعد الثالث”، انتقل سنة 2003 إِلى جامعة مانشستر يتخصَّص في “تصاميم البُعد الثالث”، واكتشف كيف يمكنُ نقْلُ الورق من مساحته المسطَّحة أَو المطويَّة إِلى بُعد ثالث للورق يُطْلِع منه أَشكالًا نحتية بالأَبعاد الثلاثة كأَيِّ منحوتة حجرية أَو رخامية أَو خشبية. وعند تخرُّجه سنة 2007 أَضمر أَن تكون له لمستُه الخاصة كنحَّات، فراح يُعَمِّق تجاربه في “نحت الورق”. صحيح أَنه بدأَ ينفِّذ طلباتٍ لمنحوتات عادية كي يؤَمِّن دخْله، لكنه كان ينْهَدُ إِلى تطوير آخر.
في نزهاته المتكرِّرة إِلى وساعات الطبيعة، راح يتأَمل ما في أَوراق أَشجارها من أَشكال مستطيلة أَو مدوَّرة أَو ملتفَّة، ويفكر أَن ينقل هذه الأَشكال إِلى الورق الصناعي الذي من تلك الأَشجار. راح يجرِّب ويفتِّش ويخترع ويمزِّق ويُعيد، متأَكِّدًا من وُصُوله إِلى أَشكال وأَحجام جديدة في استخدام الورق بين يديه، طيًّا أَو لَفًّا أَو تدويرًا أَو تركيبًا، بلوغًا إِلى أَجسامٍ مثلَّثة الأَبعاد.
جمع بدون مواد لاصقة
راحت تنصاع له الأَشكال: هنا جناحا عصفور منفلشان، هنا تَكَوُّمُ بطَّةٍ عند شفاه البحيرة، هنا أَبواق تصدح ولا صوت …، ومن شكل إِلى جسم إِلى حجم، تأَكَّدَ له أَنه على الطريق الصحيح للابتكار.
بدأَ يبحث كيف يمكنه أَن يُطْلِعَ من لفّ الورق طبقاتٍ متراكمةً، ثم من وصْله طرحياتٍ متلاحقة، فتخديشه وتثليمه على مراحل متتابعة وفي وضعيات مختلفة بين أُفقية وعمودية وموروبة، أَو جمْع أَكثر من شكل في توليفة واحدة.
وفي جميع تلك المحاولات كان يسعى إِلى تجنُّب الغراء أَو أَيِّ موادَّ لاصقة، كي لا يكون عملُه شكلًا آخر من “الكولاج”. أَراد أَن يتفرَّد فلا يُقلِّد ولا يُذكِّر بأَحد. وتدريجيًّا راحت تتكوَّن من “منحوتاته” الورقية أَشكال كأَنها غُيوم، كأَنها ثلوج، كأَنها طيور، كأَنها راقصة باليه تتغاوى على مسرح، ولا نهايةَ لما نجحَ به في “تصوير” أَشكال بأَحجام الورق.
وسعى إِلى تَـجَنُّب الورق الملوَّن كي لا يَفْقد الشكلُ مادته، فأَجرى جميع تجاربه على الورق الأَبيض، وتحديدًا الصقيل، وبعض الكرتون الأَبيض اللماع، الرقيق أَو المتوسط السماكة، كي يبدو عن بُعدٍ كأَنه نحتٌ في الرخام.
الكاميرا ذاكرة الورق
وفي كلٍّ من تجاربه، كان يستوحي أَشكالًا من الطبيعة كي يقترب في نحته من أَشكالها فلا تكون منحوتاته هجينة الشكل غريبتَه، بل يستطيعُ مُقْتنيها أَن يُديرَها في كل اتجاه، أَو يستديرَ حولها في الأَربع الجهات، وتبقى في كل جهة محافِظة على تماسُك شكْلها وتعبيره. ولم يكن يخرج إِلى الطبيعة إِلَّا متأَبِّطًا آلة التصوير فيلتقط بالكاميرا شكلًا يُعجبه أَو طيرًا يَلْفته، حتى إِذا عاد إِلى محترفه ظَهَّر تلك الصوَر “المصطادة” وجعلَها أَمامه يستقي منها نماذجَ طبيعيةً لمنحوتاتٍ ورقية. وقد ينحت شكلًا بالورق لا يراه مطابقًا لِما رمى إِليه فيمزِّقه مرة أَو أَكثر حتى يستقيم له الشكل الذي في باله أَن يُطْلِعه.
لتشكيل هذه الأَحجام، يستعمل مقصَّات خاصة وشفَرات حادَّةً وموادَّ محدَّدة كي لا يُضطَرَّ إِلى لصق القطع بعضها ببعض. لذا يطويها ويلولبُها ويُدخل أَجزاء منها في فتحات يكون قَصَّها محدَّدة الزوايا والتدويرات كي تستقبل أَشكالًا أُخرى من الامتداد ذاته، وتكون “خياطتُها” الـمُتداخلة والـمُتجانبة والـمُقَوَّرة والـمُدَوَّرة والـمُكَوَّرة هي التي تشكِّل الترابُط والتماسك بدون أَيِّ مادَّة خارجية تَدخل على الورق.
من ثلاثة أَبعاد إِلى الأَبعاد القُصوى
وقد يتعمَّد استنباط شكل تجريدي لا يوحي بأَيِّ ما في الطبيعة، لكنَّ ما فيه من جمال سائغ ولطيف يجعل منحوتته لطيفةَ الحضور على طاولة في صالون، أَو حارسة باب على مدخل بيت، أَو مزهرية ساطعة في بهو مكتب. وفي هذه الأَشكال التجريدية فُسحةُ خيالٍ واسعةٌ تترك للمتلقِّي مَدى واسعًا من مساحات التفكير ومسافات التنظير.
وإِذ سيطر تمامًا على مقصَّاته وشِفاره وعلى أَحجامه وأَشكاله، وبدأَ يعرضها فتلاقي نجاحًا وإِقبالًا عليها متزايدًا معرضًا بعد معرض، أَراد تعميم هذه الدُربة الفنية النادرة فوضَع قبل شهرَين كتابه “النحت الورقي- أَشكال منسابة” (منشورات شيفر الأَميركية – پنسيلڤانيا – تشرين الثاني/نوڤمبر 2021)، وأَخذ يعطي في الجامعات الإِنكليزية والأَميركية محاضرات ولقاءات وَوُرَشَ عمل حول تقْنيته الخاصة التي أَخذت تتعمَّم على مساحة أَوسع من الفنانين الطامحين إِلى الجديد، كما كان هو في مطلع شبابه اختار اختصاص “الأَبعاد الثلاثة” مَدًى له أَوصله اليوم إِلى الأَبعاد القُصوى. فالفن سماءٌ لا حدودَ لها ولا أَبعاد.
كلام الصُوَر:
- ريتشارد سْوِيني: ورقة تَقرأُ في كتاب من ورق
- ريتشارد ينحت الورق في محترفه
- بُوقان، والصوتُ صدى الورق
- راقصة من ورَق
- أَمواج في بحر من ورق
- غلاف كتابه “النحت الورقيّ”