هنري زغيب
Follow us on Facebook
Follow us on YouTube

أَبو شبكة وفرُّوخ: خصومةُ دقيقة واحدة
النهار العربي (25) – الثلثاء 26 كانون الثاني 2021

هنري زغيب

غدًا الأَربعاء: الذكرى الرابعة والسبعون (27 كانون الثاني/يناير 1947) لغياب الياس أَبو شبكة (كان يصرُّ أَن يبقى اسمه “أَبو شبكة” مرفوعًا في جميع حالات الإِعراب). وبين أَوراقي عنه، وما أَكثرَها، قصة طريفة جرت بينه وبين صديقه الرسّام مصطفى فرُّوخ، لم أَجد أَفضل منها اليوم لاستذكار هذا الشاعر الذي انقصف في ربيعه الرابع والأَربعين (1903- 1947) وهو في أَوج ينبوعه الشعريّ.

الخصومات الأَدبية السريعة

 فترةُ الثلاثينات والأَربعينات في لبنان لم تكن حافلةً بالزخم الأَدبي فَحَسب، بل تخلّلتْها مناسباتٌ، بعضُها شخصيّ وبعضها الآخر عامٌّ، شكَّلت أَحداثها وأَعلامها فورةً مباركةً ترجَمَها الأَدب اللبناني نتاجًا ثريًّا.

منها مثلًا خلاف نشَبَ بين بشارة الخوري (الأَخطل الصغير) و”عصبة العشرة” (فؤَاد حبيش، ميشال أَبو شهلا، خليل تقي الدين، الياس أَبو شبكة)، وانتهى بمصالحةٍ رَتَّبَها سعيد عقل في كازينو “الوادي” على ضفاف البردوني.

ومنها مقاطعة بعض الأُدباء النشرَ في مجلة “المكشوف”، ما وسَّع دائرة النشر الأَدبي في مجلات وصحف أُخرى.

ومنها العاصفة (العابرة) بين صاحب “العاصفة” كرم ملحم كرم وبعض أُدباء جيله.

ومنها خصام بين سعيد عقل وبشارة الخوري يومَ صوَّر بعضهم للأَخير أَنّ سعيد عقل على منبر الجامعة الأَميركية كان يعنيه هو حين تحدَّث في حضوره عن “الشويعِرِين”، فعاد الأَخطل إِلى المنبر يهاجم سعيد عقل من دون أَن يسمّيه، وانتهى اللقاء بعناق أَخَويّ وإِصرارٍ (لاحقًا) من الأَخطل أَن يكتب سعيد عقل مقدّمة “ديوان الأَخطل الصغير”، بعدما كان سعيد عقل لَولَبَ مهرجانِ مبايعة الأخطل الصغير أَميرًا للشعراء في قصر الأُونسكو (حزيران/يونيو 1961).

هكذا إِذًا: لم تكن تلك الخصومات الأَدبية تطول، وكانت تنتهي بعناقٍ في مقهى، أَو في مكتب جريدة، وتكون النتيجة بين “المتخاصمين” ودًّا أَقوى من السابق.

في محفوظات هاني فرُّوخ عن دفاتر والده مصطفى صفحتان كَتَبَهما فرُّوخ بخطِّه تحت عنوان “خصام دقيقة”، عن قصةٍ طريفةٍ جرت بينه وبين الياس أَبو شبكة، هي من البساطة والبراءة ما يدل على نقاء فنانين حقيقيَّين لا تفرِّق بينهم غيمةٌ عابرة مهما تكن.

نص فرّوخ

هنا نصُّ الصفحتَين كما دوَّنهما فرُّوخ في دفتر مذكِّراته:

“كانت تربطُني بشاعرنا الراحل صداقةُ الشاعر بالفنان، رابطةُ الفكرِ بالفكر والعاطفة بالعاطفة.

ومنذ قرأْتُ له للمرة الأُولى أَصبحتُ من المعجَبين به، لأَنه كان في أَدَبه يعبّر عن شعوري وأَهدافي، فأَجدُ في أَدبه الأَنَفة، وأُحسّ الثورة والجرأَة في قول الحقّ. لذلك أَحببتُه وملْتُ إِليه.

قد يكون لشخصيته أَثـرٌ في شدَّة إِعجابي به. وقد يكون لصورته وشكله دخْلٌ في الأَمر. فهو كان لبنانيًّا محافظًا على طابعه: بِـــوَضعِ طربوشه من دونِ اكتراث بظهورِ غُرَّته، بانسجام جسمِه المنتصبِ كالرمح ومشيته الدالَّة على كثير من الثقة بالنفس، بتأَبُّطِهِ عصاه الشهيرة وصُحُفَهُ، وبشموخ رأْسِه أَبدًا إِلى فوق. كل ذلك كان يحملُني على محبَّته واستلطافه لأَنه ذو شخصية مميَّزة، وذو طابع خاص.

يقولون: “لا بُدَّ لشحْذ الصداقة من صَدَمات لتَقْويَتِها وصَقْلِها”. وهنا حادث يؤكد ذلك: مرَّت على صداقتنا سنواتٌ عدة، وكثيرًا ما كان يُرسل لي النكتةَ كلامًا مجنَّحًا فأَرُدُّها له خطوطًا هزليةً لاذعة يَضحكُ لها ويحفظُها بين أَوراقه.

وذات يومٍ كنتُ ثائرَ الأَعصاب أَرى الدنيا ظُلمةً حالكة، فدخلتُ مخزنَ حلويات، وإِذا بي وشاعرنا الياس وجهًا لوجه. ما إِن حيَّيْتُهُ حتّى بدأ يعاتبني لعدَم زيارتي إِيّاه. وكأَنه ذاك النهار كان مثلي في ثورةٍ نفسية فلم يَقبَل اعتذاري ولم يُسامح، والشاعرُ والفنانُ كالأَطفال لا يُحسنون أَساليب المراوغة والمصانعة والكَرّ والفَرّ. كنتُ من ضيق الصدر أَن تبادلنا بعضَ الكلمات الجافة. ولكن، حين تأَمّلتُ في عينيه، مرَّت في خاطري قِطَعٌ من أَدَبِهِ الذي أُحِبّ. وكلمْح البصر ابتسمتُ له وابتسم لي وقال: “بِــربّكَ، أَحقًّا نتخاصم الآن؟ أَيمكن الأَديب والفنان أَن يعرفا غير الحُب والجمال والسلام”؟ فأَجبتُ: “هذا ما كنت أُفكِّر فيه هذه اللحظة”. ثم مَدَّ ذراعيه وعانَقَني بلهفةِ الأَخ لأخيه.

التفتُّ إِليه، كأَني كنتُ في حلم، والابتسامةُ لا تفارقُني والاستفهامُ يرتسمُ على وجهي. مرَّ كلُّ ذلك في سرعةٍ خاطفة. ودِدتُ أَن أُبدِّل الجوّ فنظرتُ إِلى يميني ووقع نظري على واجهةِ الحلوى انطرحَتْ قِطَعُها على مختلف أَشكالها وأَلوانها تبعثُ رائحتَها الشهيةَ كأَنها مُدَّت هنا لِمثل هذه المناسبة. قلت له: “دونكَ هذه الحلويات الجاثمة فاجعلْ بعضَها فداءً لخلافِنا العارض، كما الله سبحانه جعل الكبش فداءً لاسماعيل”.

وهنا أَطلَقَها، رحمه الله، ضحكةً مدوّيةً لهذه الفتوى المرتجلة والمسالِمة البريئة البعيدة عن الحقد والضغينة وبَثّ الأَلغام الخفية.

وبينما كنا نَمسحُ بقايا السُكَّر عن شفاهنا، تودَّعْنا بمصافحةٍ شديدةٍ مكَّنَت من صداقتِنا، فكانَت لها كالماء نَــزَلَ على الزهرة الذابلة وأَنعَشَها فإِذا هي أَقوى من ذي قبل”.

حول النص

عن هاني فروخ أَن المحلّ المقصود في مذكرات والده هو “حلويات الوَزّي” على ساحة البرج، كان يلتقي فيه معظمُ الأُدباء والفنانين قبل أَن يتفرَّقوا إِلى مناطقهم وبلداتهم.

هذا النص دليلٌ آخر على وشائجَ عميقةٍ كانت بين فرُّوخ و”أَبو شبكة”. ففرُّوخ هو الفنان الوحيدُ الذي وضَع لـ”أَبو شبكة” رسومًا ثلاثة: الأَول مائي (1936)، الثاني بالحبر الصيني (1944) نشره هاني فرُّوخ سنة 1980 في كتاب “وجوه العصر بِحبر الفنان فروخ”، والثالث بالحبر الصيني أَيضًا (1946 رسمه فرُّوخ قبل ثلاثة أَشهر من وفاة الشاعر) وهو أَكثرُ الرسوم انتشارًا للشاعر بفضل فروخ، ما زالت تتناقله الصحف والمجلَّات والكتب الأَدبية والمدرسية جميعها.

سنة 1955 زار فروخ زوق مكايل ووَضع لها لوحةً زيتيةً ظهرَ في مقدَّمها بيت “أَبو شبكة” حيث كان يلتقي الصديقان ويتمشيان بين أَشجار اللوز في حنايا “الزوق”.

وفي محفوظات فرُّوخ الطبعةُ الأُولى لـ”نداء القلب” (دار المكشوف- 1944) وعليها من الشاعر بخطِّه وحبره الأَخضر هذا الإِهداء: “إِلى أَخي الفاضل الأُستاذ مصطفى فرُّوخ، تقدمة محبّة واحترام- الياس أَبو شبكة” (1944).