هنري زغيب
حين شاهدتُ ثانيةً فيلم جيمس كاميرون “التايتانيك” (1997 – بكلفة 200 مليون دولار) كانت لأَتبيَّنَ تفاصيل دقيقةً لم تتسنَّ لي متابعتُها يوم شاهدتُهُ مرة أُولى في إِحدى صالات بيروت.
وحين قرأْتُ لاحقًا تقارير عن هذه نكبة “المدينة العائمة” بدا لي أَنها باقيةٌ على باب أَسئلة كبرى لم ينفتح بعدُ حتى اليوم ونحن نتذكر هذا الأُسبوع تلك الكارثة التي ارتجَّت لها ذاكرة التاريخ قبل 109 سنوات.
تلك الليلة الرهيبة
ما الذي جرى الساعة 11:10 ليلَ الجمعة 12 نيسان/أَپريل 1912؟ وكيف جرى؟ ولماذا؟ ومَن المسؤُول؟
قبل 39 ثانية فقط رأَى البحار البريطاني المناوب فرِدِريك فْلِيت من مقعده في برج المراقبة منظرًا مرعبًا، فصرخ مذعورًا عبْر مكبِّر الصوت في قُمرة القائد: “كاپتن، جبلُ جليدٍ أَمامنا مباشرةً”. لم يعُد من أَمل في تجنُّبه. هل لأَن الْمَرقَب لم يكشفه من مسافة أَبعد؟ هل ضخامة السفينة حالت دون انعطافها بسرعة قبل الارتطام؟ هل سرعة السفينة كانت أَقوى من أَن يبَطِّئَها القبطان؟ لماذا قوارب النجاة لم تحمل إِلَّا 700 راكب تاركةً 1500 راكب سحبتْهُم إِلى قاع الأَطلسي مياهٌ مجلَّدة فاغرةٌ أَشداقَها لتلتهم سفينةً قيل باعتزاز إِنها “لا تُحرَق ولا تَغْرَق”؟
فرِدِريك فْليت نجا من الكارثة، لكن لحظة الرعب تلك تركَت خللًا في دماغه حتى انتحاره شنقًا في 28 كانون الأَول 1964. وبموته مات جوابٌ عن أسئلة كبرى، وهو آخرُ مَن شاهد قائد السفينة (“البطل” كما سمَّاه في شهادته) الكاپتن إِدوارد جون سميث الذي ظل يعمل على إِنقاذ مَن استطاع إِنقاذه قبل أَن يختنق غرَقًا بين الأَمواج المرعبة وهي تبتلع السفينة إِلى أَسوإِ كارثة بحرية في التاريخ.
أَفخم سفينة في العالم
حين بلغ نحو 100،000 متفرجٍ مَن زاروا حوض بناء السفن في بلفاست (إِيرلندا) صباح السبت 31 آذار/مارس 1911 ليَحضروا تدشين أَكبر وأَفخم سفينة سياحية في العالم حتَّئِذٍ (طولها 270 مترًا، عُلُوُّها 54 مترًا، وزْنُها 46،000 طُن، فيها أَحدث الآلات الكهربائية والأَجهزة المتطورة، وأَربعة مصاعد كهربائية) لم يكونوا يَحدُسُون أَن رحلتها من ميناء ساوثامپتون (إِنكلترا) إِلى نيويورك ستنقصف بعد أَربعة أَيام من انطلاقها.
سنة 2001 جاء في تقريرٍ أَن القبطان سميث كان يقودها بسرعة زائدة بلغَت 22 عقدة بحرية، كي يكسر رقمًا قياسيًّا سابقًا سجَّلَتْه قبْلها السفينة “أُولمپيك”.
سنة 2004 أَفاد المهندس البحري روبرت إِسِّنْهاي أَن القبطان تعمَّد السرعة الزائدة عند تبَلُّغِهِ نبأَ نشوبِ حريقٍ أَصابَ أَحد مستودعات الفحم في أَسفل السفينة ويهدِّد بتوقُّفها في عرض المحيط.
غلطة في غرفة القيادة
سنة 2005 أَفاد تقرير أَن السفينة، قبل نحو ساعة من وصولها إِلى جبل الجليد، التقطَت إِنذارًا لاسلكيًّا من سفينة “كاليفورنيا” القريبة منها يفيد بأَنها واجهَت في تلك البقعة عوائق جليدية خطيرة، وضروريٌّ تغييرُ اتجاه السُفُن. ولأَن الإِنذار لم يخاطب “التايتانيك” بالاسم، ظنَّ موظف الشيفرة اللاسلكية جاك فيلپس أَن الأَمر لا يعنيه وليس مُلحًّا، فلم يبلِّغْ به القبطان سميث.
سنة 2009 أَفادت لويز پاتِن (حفيدة الضابط البحريّ الناجي تشارلز لايتُولِر) نقلًا عن جدتها بعد موت زوجها الضابط، أَنْ كان في قمرة القيادة عهدئذٍ نظامان تقنيان يتحكمان باتجاهها، وحين البحريُّ المناوبُ في القمرة سمعَ صرخة “الانعطاف الفوري السريع جدًّا”، ارتعب وارتبَكَ، وعوض استخدامه أَحد النظامَين (تحويل اتجاه السفينة)، استخدم النظام الآخر الذي جعلها تتَّجه مباشرةً إِلى جبل الجليد.
سنة 2010 غاصت بعثةُ استقصاءٍ أَميركية فرنسية على حطام السفينة (عُمق 3900 متر)، وأَصدرت تقريرًا عاكس ما كان سائدًا: جاء فيه أَن السفينة لم تغرق لارتطامها بالجبل الجليدي بل بدأَت تتفكَّك وهي بعدُ على سطح المياه، لأَن نحو 3 ملايين مسمار لتثبيت الصفائح المعدنية وتبشيمها، انفرطت بقُوَّة الصدمة فانهارت الصفائح وأَضعفت هيكل السفينة فتخلْخَلَت بُنْيَتُها فور ارتطام مقدَّمها بالجليد، وعندئذٍ بدأَت بالغرق.
نَسِيَ المفتاح في جيبه
سنة 2012، عند الاحتفال بمئوية غرق “التايتانيك”، صدرت دراستان أَكَّدتا تأْثير الظروف المناخية السيئة على مصير السفينة الأَسْوَد. الأُولى بأَنَّ تقاطُعَ الشمس ليلَتَئذٍ سبَّب نُشُوبَ جبالٍ من الموج غير عادية تجلَّد بعضها عاليًا في طريق السفن عابرةِ المحيط، والأُخرى بأَن الضباب كان كثيفًا جدًّا فحجَب الرؤُية عن منظار المرصد.
وفي تقرير قديم أَن البحري ديڤيد بلير (مساعد القبطان) كان في جيبه مفتاحُ غرفة المناظير المزدوجة. وقبل ساعتين على إِقلاع السفينة من مرفإِ ساوثامپتون جاء الأَمر باستبداله، ونَسِيَ المفتاح في جيبه فلم يسلِّمه لمن تولَّى المهمة مكانه على متن السفينة. وكان يمكن المناظير المزدوجة أَن ترى عن بُعد فتُنقذَ السفينة قبل بلوغها الجليد. ولاحقًا، سنة 2007، في مزادٍ علَني، بيع ذاك المفتاح بقيمة 90،000 پاوند استرليني.
أَيًّا يكُن سبب الغرق، أَمكَنَ إِنقاذُ أَرواحٍ أَكثرَ لو كان على متن السفينة أَكثر من قوارب النجاة (كان على متنها 20 قاربًا فقط، وهو الحد الأَدنى قانونًا لإِنقاذ 1178 شخصًا). فالمهندس البحري موريس كْلارك اقترح أَلَّا تُبحر قبل تزويدها بعشرة قوارب أُخرى، لكنه هُدِّد بفقدان وظيفته إِن لم يُعْطِها الإِذْن التقْني بالإِقلاع. وبسبب الهلع الفوضوي عند ارتطام السفينة، بقي نحو 400 مقعد فارغ في القوارب فساحت على وجه المياه المجلَّدة تاركة 1500 راكب يلقَون مصيرهم الفاجع في قعر المحيط المرعب.
كلام الصور
- آخر صورة للتايتانيك عند إِقلاعها
- مقدِّمة السفينة قبل إِقلاعها
- مقدِّمتها بعد غرقها
- العمَّال يودعونها على الرصيف قبل انطلاقها
- سطْح السفينة وركَّاب يتنزهون
- سطحُها غارقًا تحت الركام
- قائد السفينة الكاپتن سميث (إِلى اليمين) مع معاونيه قبل الإِقلاع
- الاستغاثة اللاسلكية الأَخيرة: “نَغْرَقُ بسرعة. الرُكَّاب يستقلُّون القوارب”