مقدمة الكتاب
تنتمي قصائدُ هذا الكتاب الى مرحلةٍ فاصلةٍ من عُمري.
الستُّون !
قُبَيل بلوغي إياها تَحسّبتُ لاقتبالها في تَهَيُّبٍ ونَذْر:
– التهيُّبُ أن أكون على مستوى بلوغها،
– والنَّذْرُ ألاّ أعودَ الى أخطاءَ كم ارتكبتُها قبلها.
لذلك استعدَدْتُ لها:
على مشارفها، الستُّون، أحملُني الى بقيَّة عمــــرِ يَحذَر المِزَقا
أذوقُ نُضجي ويا خَوفي إذا خطأً خَطَوتُ قولاً فجاءت خطوتي نَزَقا (ص )
ويوم بلغتُها (9 كانون الأول 2008) دخلتُ في خلوةٍ عميقة ذاتية، راجعتُ فيها كلَّ ما كان ومَن كان، وخَرجتُ من الخلوة بنَذرٍ جديد: أن أبدأ من الستين عمراً يفصلني عن سابقه وعيُ الزمن الهارب الذي تزَأْبَق من بين أيامي وهدرتُ منه الكثير بلا طائل.
إنه إذاً وعيُ الزمن، وعيُ العمر الذي قرَّرتُ أن أَستلحقه بِما يستدرك ثِماراً للبقيّة الباقية من عمري.
تلك كانت رسالتي الى ذاتي، في بلوغي الستين، قبل أن تكون رسالتي الى السوى.
والشاعر رسول ذاته قبل أن يكون صوت السوى في قصائده، أو صوتاً الى السوى.
أأكون، بيني وبيني، رسول ذاتي قبل أن أخرج الى السوى؟
أَأَبلغُ هذا الحدَّ من الصدق أمام مرآة العمر ومراحله من ماضٍ وحاضر ومستقبل؟
***
المستقبل !!!
كيف بلوغُه إن لم نكن متصالحين مع الحاضر؟
“الصيف الهندي” ليس هو الصيف.
وربيعُه ليس الربيع.
فكيف يتصالح الحاضر مع المستقبل؟
وكيف ينغلق الماضي على ما فيه ومن فيه؟
الزمن الجديد !
تلك كانت النُّطفة التي ولدَت منها قصائد هذا الكتاب، وتلك كانت الشرارة التي باركت شعلة هذا الكتاب، فكانت قصائده أيقونة من نجمة العمر التي، جذلى بشاعرها، مَنَحَتْهُ نورَها شاعريةً بِكْراً تُخلِّدُهُ وتُخلِّدُها.
***
يفصل قصائدَ هذا الكتاب عن شقيقاتها في الكتب السابقة، أنّ فيها وحياً مُختلفاً، وإلْهاماً مغايراً يأتي من فضاءاتٍ بكر، مما فجّر، في الستّين، ربيعاً شعرياً لم يعرفه أَيُّ ربيع سبق.
حُبُّكَ الْحُبَّ ظَلّ وَهْماً الى أن جاءَكَ الحُبُّ نابضاً من نَداها (*)
هوذا نداها يهلّ عليّ، تلك اللحظة المباركة التي أيقظت فيَّ نَجمة الصباح في غَسَق العمر.
أيكونُ الزمَن، الى هذا الحدّ، مبارِكاً خطواتي الشعرية ولم أكن واعِيهِ؟
هوذا الْمُعاش الحيّ الحقيقيّ منبسطٌ في هذه القصائد، بالسحابة الشعرية التي تَحمل الْمُعاشَ الى التعبير الخلاق.
إنه الحقيقيّ والْمُعاش معاً. إنه الحقيقيُّ والخيال معاً.
لم يعُد للماضي بُعدٌ في قصائد هذا الكتاب. صار تطلُّعي الى الغد الآتي هو البُعد.
***
في هذا الكتاب يتصالح بي الرَّجل مع الشاعر.
قبله، كان الشاعر مراتٍ يسيح في الخيال، فيدَع الرجل على أرض الواقع يواجه خيباته.
ومراتٍ كان الرجل ينفصل عن الشاعر، ليعيش حياة يومية عادية يأنفها الشاعر.
في هذا الكتاب يتصالَح الرجل والشاعر معاً.
إذاً يتصالح الزمن في أَبعاده الثلاثة: يبتعد عن عتبات الماضي ليعيش الحاضر، ويقف مواجهاً مصيرَه عند عتبة المستقبل.
كثيرةً كانت العتبات التي وقفتُ عندها في ذاك الماضي، وكثيرةً كانت خيباتي من دخولي تلك العتبات وأبوابها.
عشية الستّين، كتبتُ مقالي الأسبوعي “أزرار” في جريدة “النهار” وَعَنْوَنْتُهُ “ستون” وفيه اعترفتُ: “أخطائيَ أعرف، وخطاياي. ووعيي معرفتي يَحرزُني من التكرار، ويُحَصِّنني ضدّ الوقوع من جديد… هل من ندمٍ وأنا أختُمُ الستّين؟ طبعاً. لعلّ معظمَه على وقتٍ كنتُ أهدرُه على السوى. ولو انني التفتُّ إلَيّ، عوض انصرافي الى السوى، لكان نتاجي، ربّما، أوفرَ جنىً. ولو أحصيتُ ما صرفتُهُ من عمرٍ على السوى، لَخَجِلْتُ من هَدْرٍ قَضَمَ من عمري ما كانت حصيلتُهُ عُقوقاً أو لامُبالاة. حان عمرُ أن أخدُمَني فأنصرفَ إلَيَّ قبل انصراف العمر”.
وكنتُ يومها أعيش الساعات الأُولى من صباح عمرٍ يرنو الى نَجمته في رجاء، فابتهلتُ: “أيها العمر، بيني وبينكَ عهدٌ: إِحفظْ لي نَجمتي، وبالمقابل خُذ مني، لعقْديَ السابع، غِلالاً لا أنتَ تَخجل بِها، ولا أنا أَهدُرُني دون أناقة الستّين. فامنحْني فرصةَ أن أَفي نَجمتي وفائي بوعْدي إياها وعَهدي لَها: بَذْرُ بيادرَ مقبلةٍ تُباركها هي، قدْرَما تَمنحني أنتَ سنواتٍ مقبلةً أُخصِبُها سنابل. أيها العمر، هل تسمعني؟”.
***
ذاك إذاً كان هاجسي: العمر.
عشية الستّين، كنتُ أمام عتبة جديدة.
وكان تَرَدُّدي على حجم تَهَيُّبِي: بعد انْهيار الجسور ورائي، أَأَدخل العتبة الجديدة؟
أمامي عتبةٌ جديدة، وبابٌ جديد فوقه نَجمةُ عمرٍ لم يعد يَحتمل الأخطاء ولا الخطايا ولا الخيبات.
أَأَختار الوقوف دونه؟
أَأَختار نَجمة العمر؟
عشية الستين، كان أيلول المبشِّر بالخريف، يفاجئني بالصيف الهندي.
أَأَدخل “الصيف الهندي”؟ ولكنه سريع عاجل عابر ضئيل!
أَأَدخل عتبتَه؟ وماذا إذا انكسرت بي على خيبةٍ جديدةٍ عند انقضاء “الصيف الهندي”؟
أَأُقفل عائداً من حيث أتيت، فأعود الى الماضي وصحاراه مهوِّماً في وُجهات بلا جِهات؟
نَجمةُ العمر، التي أمسكَت من طرفِهِ أيلول، تواعدني بالربيع. في عينيها شَعَّةُ عمرٍ لم يعرفه عمري .
هوذا الزمن من جديد يترصَّدني على عتبة جديدة.
أما زال عندي عُمرٌ، بعدُ، كي أُغامرَ بِما تبقّى لي من عُمر؟
تذكَّرتُ سياط الماضي وتصنُّمَ حاضره المنصرم.
استعان الرجلُ بي بشجاعة الشاعر، وقرّرا الدخول معاً: اجتياز العتبة الجديدة الى الباب الجديد الذي يفتح على عمر جديد يبدأ في الستّين.
هوذا الزمن من جديد.
وها أنا وجهاً لوجهٍ أمامه. في حضرته. في هيبة سلطانه.
دخلتُ.
تَخطّيتُ تَرَدُّدي ودخَلْتُ.
شاعراً ورجلاً دخَلتُ.
من يومها تغيَّر الرجُل بي.
وتغيَّر الشاعر.
هوذا الزمن من جديد.
لكنني تصالَحتُ معه.
نَجمةُ العمر صالَحَتْني معه.
أشرقَت قصائدي قبل أن تذبل في الخريف. أشرقَ عمري قبل أن يبتلعه الغسَق.
وها أنا، منذ نُور الستّين، في فجر دائم.
في صبح دائم.
ها نَجمة العمر لا تغيب.
وصلتُ، وكنتُ أَظنني الى غروب الستين.
ودَّعتُ السنين المالحة. استقلتُ منها:
هَجَرتُكِ للحَياةِ وللدُّرُوبِ وكنتُ إِخالُني صَوبَ الغُروبِ
وحين أطلَّت الستُّون كادَت تُواصِلُ ما تَناثَـرَ من هُبوبي
الى أنْ نَجمَتي الهيمى أَطَلَّت لِتُوقِظَني من الوَهْم الكَذُوبِ (*)
هوذا الزمن من جديد.
هوذا حواري مع ذاتي في قصائد هذا الكتاب.
هوذا الرجل العاشق تصالَحَ مع الشاعر العاشق، فكان هذا الكتاب تكريساً لمصالحة جسد الحياة مع جسد اللغة.
هي ذي رسالة الشاعر تتولاّها نجمة العمر فتُصالِح الحاضرَ مع المستقبل، الحياة الشخصية مع اللغة الشعرية.
“الصيفُ الهندي” ليس الصيف. لم يعُد الصيف. صار الماضي.
ربيعُ الصيف الهندي ليس الربيع. لم يعُد الربيع. لكنه ليس الخريف. إنه مستقبل الفصول.
تباركت هذه المصالَحة بين الحاضر والمستقبل.
معها يرحل “الصيف الهندي” المؤقَّت، ويبقى ربيعُه.
ربيعُه هو الوعد بالمستقبل.
هو الربيع الدائم. المستقبل الدائم.
علامة “الصيف الهندي” أنه مُتأخِّراً يَصِل، وبسرعةٍ يرحَل.
فَلْيَصُحَّ ما في الحلْم: أن يأتي ربيعٌ يطول، علامتُهُ نجمة العُمر التي وصلَتْ.
في “الصيف الهنديّ” وصلَتْ.
متأخرةً جاءَت لكنها وصلَتْ، ولَم تعُدْ صحراءَ رهيبةً مَحطةُ الانتظار.
***
فيا أَيُّها “الصيفُ الهنديّ”، لا تُمارس “هِنْدِيَّتَك” على نَجمة العمر!
وأنتَ، أيها العمر، ها أنا أتيتُ.
اجتزتُ العتبة الجديدة.
دخلتُ الباب الجديد.
فافتح لي غَدي على صبح دائمٍ تضيئُه نَجمتُك التي هلَّت في أيلول لتُقفِلَ الخريفَ على ربيعٍ دائم، ولكي تُقفِلَ الصيف على موسم دائمٍ، علامتُهُ… ربيعُ “الصيف الهندي”.
29 أيلول 2009
_________________
*) من قصيدةٍ في الكتاب المقبل.
**************************************************************
English translation
هذا أنا… سامِحي مَن كنتُ قَبلَكِ بي لا تَجْلُديني بـِماضٍ لَم تكونيهِ
بدأْتُ يوم “وُلِدْنا” من غَـدٍ نَـضِـرٍ أفضى إليكِ! فصوغيني، وصُونيه
This is the “I am” now! Forgive who I was before I met you.
Do not lash me with a past you did not share;
The day we met I was born, and began to live;
A future of promise led me to you! So sustain it, and mould me anew.
***********************************
تُكافِئُني الحياةُ بِكِ… اسْتَحَقَّتْ حَياتي – مُنْذُ أَنتِ- بِأَنْ تُكافَا
يُغَلِّفُني رِضــاكِ فَأَسْتَقي مِن رِضـاكِ هَنَايَ يَغْمُرُني كَفَافَا
You have been my life’s reward …a life which deserved
To be rewarded since you came into it.
Wrapped in your contentment , from it I receive
Bliss that is mine in full sufficiency.
**********************************
كَـم حَياةً عَبَرْتِ حتّى تَعَلَّـمْتِ تُحِبّينَني بِهـذا الْحَـنانِ؟
بِـرِضَى الأُمِّ تَحْضُنـينَ مَصِيري وَبِنَفْحِ الْجَديدِ سَكْبَ بَياني
Many a life passed by before you learnt
To love me with such surpassing tenderness ;
With a mother’s contentment you embrace my fate,
And the words I utter flow with a breath that is new.
**********************************
كمْ أنتَ أنتَ ! جُمُوحٌ عاصِفٌ! وَلَهٌ رَجٌّ !!! فكُلُّ كِياني زَلْزَلٌ… نَفِرُ
عِـبْءٌ غِيابُكَ في قلبي وَيعْصفُ بِـي وعِندَ مَلقاكَ، يَسْتَقْوِي بِيَ الْخَفَرُ
You are what you are: tempestuous, defiant,
Madly in love, turbulent– shaking all my being, then scared away ;
But the burden of your absence weighs heavily on my heart,
Touches me like a tempest– and when I meet you
I find myself overwhelmed by timidity.
Diptychs from the book
Translated by Prof. Suheil Bushrui