المجلس الثقافي للبنان الجنوبي
كلمة عضو الهيئة الإدارية في المجلس الدكتور شفيق البقاعي
في افتتاح الندوة حول كتاب الشاعر هنري زغيب
“لُغاتُ اللغة – نُظُمُ الشعر والنثر بين الأُصول والإبداع”
(الخميس 21 نيسان 2011)
باسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، أرحّب بكم أجمل ترحيب.
وبعد…
“في البدء كان الكلمة”. هكذا جاء في الإنْجيل. والكلمة هي الله. والكلمة والإنسان معدنهما اللغة. واللغة بالمعنى الفقهي هي من “لَغَا ونَطَقَ بها”. وجمْعُها “لُغات”، و”لغات اللغة” تجسيدٌ حيٌّ لاصطفاف الكلمة، والكلمة، عند هنري زغيب، “كرة أرضية كاملة، والحروف قاراتها” (ص 26).
بطاقة تعريف لمتعدِّد الهويات
هنري زغيب شاعر وأديب. هو اليوم رئيس مركز التراث اللبناني في الجامعة اللبنانية الأميركية، ورئيس مجلس المؤلِّفين والملحنين في لبنان، ورئيس الاتحاد العالمي للدراسات الجبرانية!
وهنري زغيب شاعر حداثي مُجدِّد، مؤمِنٌ بأنّ الأدب الحديث، شعراً ونثراً، مرتبط بالقديم الذي انسلَّ منه. فعنده أنّ “الومضة الشعرية إذا كانت روحَ القصيدة، فالإيقاع جسدها” (ص 159).
والشعر، برأيه، “ظاهرة عقلية لا صوتية فقط” (159)، إذ إنّ العمارة الشعرية ، في مفهومه، “لا تقوم إلاَّ بهندسةٍ مبنيةٍ يُشرفُ عليها العقل” (ص 159).
هذا الأديب الاستثنائيّ، المتعدِّد الهويات، وضع خلاصة فكره بما أبدعَه في كتابه “لُغات اللغة: نُظُمُ الشّعر والنثر بين الأُصول والإبداع”، وألمح في نهايته أنه يُمثّل الجزء الأول لعمله في هذا الحقل، أي أنّ مسيرته في هذا الميدان لم تنتهِ بعد، وأنّ الكتاب المقبل يحمل فرضية علمية. وهو لا يعتبر كتابه هذا بحثاً، ولا دراسةً، بل عملاً انطباعياً حصيلة خبرته في جدلية الكتابة شعراً ونثراً، ويعلن إشهاره فيه لموقفه مع “الشعر كما يشعر أنْ يكون شعراً، ومع النثر أن يكون نثراً!!
كتابه إذاً يحمل وجهة نظر تستحق الملاحظة والتقدير، وهو جدير بالقراءة للإفادة من عمق تحليله، وبنية المنطق الذي يقدّمه في صفحاته إضافةً إلى أسلوبه اللذيذ الذي سكبه بألوان قوس قزح يعانق فيه رذاذ المطر بشفيف خيوط الشمس الذهبية.
ما قدّمه هنري زغيب في هذا الكتاب: فيه إقناع للقارئ، وإنصات للعالم، وتشويق لطريقة تواصله مع المفهوم الذي جال في آفاقه قبلَه أعلامٌ كبار قديماً وحديثاً أمثال: عبد القاهر الجرجاني، الجاحظ ، ابن قتيبة، الخليل بن أحمد الفراهيدي، والقرطاجني، وابن عربي، وحديثاً الشيخ ناصيف اليازجي وابنه العلاَّمة الشيخ ابراهيم اليازجي، ونابغة عصره أحمد فارس الشدياق وصولاً إلى مارون عبود وسواهم.
أجل: إذا شئنا التعَمُّق بما قدّمه هؤلاء الأعلام، لوجَدنا لكلٍّ منهم وجهةَ نظره، ورؤيته في المفهوم الذي يصوِّب عقله له في التفسير والتحليل والتعليل للأبعاد التي يحتملها منطقه من أبعاد المعنى والمبنى لسياق استخدام الكلمة.
إذاً: لكل أديب أسلوبُه ونكهتُه في تحديد المفهوم. لكن أسلوب هنري زغيب له مذاقه كما له نكهته الحداثية التي لم تقطع حبل الصرة مع النكهة القديمة التي انسلَّت منها ينابيع العطاء. فالمعادلات التي أرسى مركبه في شاطئ بحرها ركَنَ إليها بوضع تداعياته فيها ليتحوّل زغبها إلى ريش نسرٍ يحلّق ويتعملق في أجوائها!
وهنري زغيب، في عمله هذا، اعتبر نفسه في مختبر يحاول اكتشافات جديدة، من خلال تجاربه، ومما وفَّرها له مَن سبقوه، لأنه على يقين بأن “المبدع لا يعود إلى ذاته مكتفياً بها، وإنما إلى المبدعين الذين سبقوه” (ص 160)، لأنه كما يقول: “يفيء إليهم، ويكتشف كيف كلُّ واحد منهم اعتمد تقنيةً هي حصيلة اطّلاعه على من سبقوه”.
هذا كلام فيه تواضع العالِم البعيد عن الادّعاء. فهنري زغيب أرسى راحلته في مكان ربط رسنها بالذين سبقوه لأنه يعتبر أنَّ له أرضية تعايش معها، وتأثَّر بمناخها الذوقي والفكري، فالقصيدة المجدِّدة- عنده- “هي بنت القصيدة التقليدية، تُشبه أمَّها، لكنَّها ليست أمَّها، فيها جذور من أمِّها، لكن فيها ملامح من روح العصر” (ص 160).
ويخلص إلى استنتاج أنّ “القصيدة الجديدة يجب أن تنعجن بالقديم. بالخميرة الأصلية. فلا خبز من دون عجين أصلي، ولا عجين أصلياً من دون خميرة أصلية” (ص 160).
هذا التفاعل الجدلي هو ما تطلَّعَ إليه هنري زغيب بوعيٍ وإحساسٍ ومسؤولية، لأن التجديد عنده “يجب أن ينطلق من داخل التراث” (ص 161). فالحداثة الحقيقية التي يسَلِّم بها جدلياً هي “أن يكون الشعر نضراً في عصره، ويبقى نضراً في كلّ عصر” (ص 162). والحداثة كما فهمها “ليست تأريخاً كرونولوجياً، بل هي عملية التواصل النضر من جيلٍ إلى جيل، فيصير الشعر الأصيل مثل الخمرة المعتقة كلّما مرّ عليها الزمن طابت وتأصّلت، وظلّت حديثة” (162). إنها آراء تستوجب الإنصات والتوقُّف، لأن مقاليد لغات اللغة هي “امتلاك صياغة الشعر على أن تكون للشعر لغته، و للنثر لغته، لأنّ لكل منهما عناصرها ونُظُمها”.
تلك تساؤلات مشروعة من كتاب هنري زغيب بين ما هو مُختلِف وما هو مؤتلِف. وهي تساؤُلاتٌ برسم الإجابة لدى الشاعر المؤلّف، ولدى المحاضرين الليلة أيضاً.
– تُرى: هل على كل شاعر أن يكون متعدّد الهويات ليُنتج بمثل هذا الخصب الذي أنتجه هنري زغيب؟!
– سؤال آخر: هل يُعتَبَر عمل هنري زغيب في “لغات اللغة” عملاً تفكيكياً على طريقة جاك دريدا من أجل بناء متجددّ متوالدٍ يتخطى فيه من سبقه؟!
– هل يعتبر مثل هذا العمل مغايراً للجمود، باعتبار أن اللغة في الشعر وحتى في النثر كفصول السنة، يكون تبدُّلها عملاً تجديدياً لذاتها في الطبيعة كتداخل جدلي من أجل عصرنة أساليبها؟ وهذا ما يتحدد لاتجاه الأفضل والأحسن، لأن الأحسن يبقى هو المتمايز بحسنه وأفضليته؟!
– أحل: “لُغات اللغة” كتابٌ جريءٌ فيه منطِق، وفيه دقّة والتزام كما حال هنري زغيب الموصوف بدقّة مواعيده، سواء في المواعيد التي يتقيّد بها في أنشطته التي يقيمها في “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأميركية. فالمحاضرة في تدقيق المواعيد تعرّفْنا إليها من هنري زغيب هي الساعة السادسة مساءً لا قبلها بثانية ولا حتّى بعدها بثانية. أي: عندما تدقّ الساعة يقرع جرسه معلناً افتتاح الجلسة فتقفل الأبواب، ويفتتح ثم يبدأ الكلام بموضوعية كما حدَّدها مسبقاً مع المحاضرين.
وليس هذا وحسْب، فهنري زغيب ينشر “أزرار”ه في جريدة “النهار” بمواعيد محدّدة ومرقَّمة، حتى أصبح العدد منذ أيام 691، وهو رقم مقطوع أثبت فيه موقفاً، عدا عن رأيه في ما ينشر.
إذاً: هنري زغيب شاعر مختلف، له أكثر من نشاط، وهو سندباد متحرّك في أكثر من اتجاه، كما هي حاله عشقه للبنان، ووفائه لصديقه شاعرنا الكبير سعيد عقل وصديقيه الأخوين رحباني، وعشقه لغتَه العربية. فهو أعطى لسعيد عقل كتاباً عبارة عن حوارٍ أقامه بدقته المعهودة طوال خمسين ساعة عَنْوَنَه “سعيد عقل إنْ حكى”، معادلاً فيه عنوان سعيد عقل “لبنان إنْ حكى”، كأنما يريد هنري أن يقول: “إن سعيد عقل هو لبنان، أو لبنان هو سعيد عقل”!
– أما الأخوان رحباني فكرّمهما، إضافة لى حبّه لهما، بكتابه “طريق النحل”، طباعة 2001.
– أما عشقه للبنان فله قصة جديرة بالشرح، وهذا تحليلي الخاص أتصوّر ما فيه من الصدقية المتخيلة فأرجو أن يقبل بها.
كلّنا تأذّينا وخفنا واختبأنا من هول الحرب اللبنانية اللعينة. لكن هنري زغيب لم يجد مكاناً يختبئ فيه عندما وصلت الحرب إلى الأهل والمنطقة والإخوة في أماكن سكنه، فقرّر الهجرة، وكانت هجرته قهرية في مطلع التسعينات إلى واشنطن في بلاد العم سام. ارتحل مرغماً عن معشوقه لبنان، ومن عنده عادةٌ من الصعب أن يتخلّى عنها. فهنري شاعر، والشعر في قلبه وعقله، لذا لم ينسَ لبنان وهو في واشنطن فأصدر مختارات من شعره عنْوَنَها بالإنكليزية “Love Poems in forbidden time” ترجمها إلى الإنكليزية عدنان حيدر ومايكل بيرد في واشنطن عام 1991، ثمّ أصدر هناك أيضاً “سمفونيا السقوط والغفران” (واشنطن- 1993)، ثم أتبعه بآخر عنوانه “حوار البحر والريح” (1994). وكان ما أعطاه هناك كافياً، لأن حنينه إلى لبنان دفعه بالرجوع إليه، فتمرّد على خوفه المسكون فيه، وكان مسكوناً فينا أيضاً، فلم أكن أفضل منه، بل هاجرت إلى أوروبا فترةً ثم عدت، وأمثالنا كثر هربوا بعيالهم هرباً من الموت المجاني.
عاد هنري زغيب إلى أحضان بلده يتابع مسيرته ونشاطه الثقافي والأدبي والاجتماعي والتأليفي، فأنشأ أنشطة ثقافية، وها هو يواصلها في مركز التراث اللبناني فيعيد إحياء التراث من خلال عباقرة في الشعر والنثر: جبران، الريحاني، نعيمه، ميشال زكور، كرم ملحم كرم، وآخرهم شاعر الأرز شبلي الملاط، ويضيء على خفايا ما زالت غامضة عن حياتهم وأدبهم. وهذا إبداع يقدَّر عليه هنري زغيب لأن الذهب إذا ما غطاه النسيان وأسدل عليه الغبار يكشحه مثل هذا اللقاء ويعود المعدن الرنان إلى توهّجه.
هكذا يكون هنري زغيب قدّم أكبر خدمة للغته العربية بتجديد المنسي منها والكشف عن خفايا عباقرتها في الشعر أو النثر أو حتى في سائر الفنون.
هكذا لم تكن هجرة هنري زغيب مقارنة مع هجرة جبران مثلاً أو الريحاني أو نعيمه، إنما كانت إغراء النفس من أجل حضارة أرقى. وهنا سؤال أوجهه إلى الشاعر هنري زغيب: هل خطر ببالك اقتفاء آثار جبران والريحاني ونعيمه؟ هل فتّشت عن الأماكن التي ألفوها؟ هل بحثت عن أسباب هي مصدر نبوغهم، دفعتهم للكتابة الراقية في زمن كان الأدب عندنا في الشرق جداً تقليدياً؟! ثم: هل خطرت لك فكرة أن تذهب لتقف عند تمثال الحرية وتخاطبه كما فعل الريحاني، لا تقليداً له، بل لتخاطب تمثال الحرية لا ليستدير وجهه نحو الشرق لينقذنا من الظلم والاضطهاد بل لتنعم بلادنا بالحرية التي أنت مثالها أو تمثّلها.
أعتقد، يا أخي هنري، لو توفّرت لك الأفكار وخاطبت ذاك التمثال، لقلتَ له: “أرجو أن يبقى وجهك نحو بلادك لأنها حالياً ومنذ نصف قرن ونيف لا هَمّ لها الإ حماية إسرائيل التي احتضنتَها وغذّيتَها ضدّنا وشجّعتَها على الحرب علينا. أرجوك أن تكفّ شرّك عنا ويكفي ما تآمرت وما زلت، من دون أن توفّر أي بلد في الشرق إلاّ ناصبته العداء من أجل سيطرتك وسلب خيراتنا من البترول: إكشح وجهك البشع عنا ودعنا نعيش بسلام”.
يكفي هذا الكلام بإيجازه ليكون ملحمة مجبولة بالصدق والاعتداد بالنفس والالتزام بالحب الوطني الذي هو جزء من الدفاع المشروع عن الذات المداسة بأفعال الغزاة المسيطرين على مقدّرات الشرق والعالم نهباً وتآمراً وافتعال حروب. ويقيني بأنك لو خاطبته بهذه اللغة لكان قلَبَ المعادلة التي تنطق بالحق وتنشد الخير وترسم الجمال.
إن الحديث يطول عن شاعر إبداعيّ مشهود له بعطائه الإبداعي في الشعر كما في النثر. فبعض المؤلّفات التي لم نجئ على ذكرها بعد: “إيقاعات” (طبعة أولى 1986، طبعة ثانية 2002)، “أنتِ… ولتنتهِ الدنيا” (2001)، “تقاسيم على إيقاع وجهك” (2005)، “منصَّة” (2006)، وآخرها “ربيع الصيف الهندي” (2009).
وأعطى في النثر: “لأنني المعبد والآلهة أنتِ” (1981)، “صديقة البحر” (1998)، “حميميات” (ط. أولى 2003، ط. ثانية 2008باللغات العربية الأصلية والإنكليزية، والفرنسية والألمانية في نيويورك)، “نقطة على الحرف” (2010) و”سعيد عقل إنْ حكى” (2010).
وأعطى في السيرة والأنطولوجيا: ” أقرأ من لبنان” (جزآن)،” أنطولوجيا القصة اللبنانية” (1980)، و”الضيعة اللبنانية بأقلام أدبائها” (1982) . وأخيراً “الأخوين رحباني: طريق النحل” (2001).
وفي خلاصة القول: هنري زغيب جوهرة لبنانية صقلَتْها الأيام، فلْينْصِفْهُ التاريخ الحديث، ولْيُعْطِهِ النقد ما يستحقّ من أنصات لِمعدن كتاباته المنوّعة، بألوانها المشرقة كلون قوس قزح، في سماءٍ غيثُها ثمين يروي النفوس العطش، ويُبلسم في أدبه ما نكأته الجراح بعدما هدأ المدفع، وعاد الصواب إلى الجماجم الفارغة إلاّ من سفك الدماء.
لذا يستحقُّ هنري زغيب وأقرانه أن يحكموا هذا الوطن بأحلامهم، وأن يكتبوا عنه بوعي، لأن لبنان حقاً هو هدية الله على الأرض.
كلمة النائب الدكتور مروان فارس
هنري زغيب في “لغات اللغة”
هي أكثرُ من محاولةٍ في فهم الأحداث التي يريد العقل أن يعبّر بها عن ذاته.
فعلى مذهب العالِم الألسني الأوّل فردينان دو سوسور أنّ بين الدالّ والمدلول علاقةً غير منطقية.
لذا يبقى المدلولُ فوق اللغة، وتستمرُّ اللغة في الانسياب إلى المعنى الخاص بها. والمعنى الخاص باللغة يتّخذ أبعاده من تخطّيه علْمَ الإمكانية الى اللاإمكانية بحد ذاتها.
في هذا السياق يقع كتاب هنري زغيب في علم الإمكان اللغوي، لأنّ كلّ شيءٍ يعيش هو كلُّ شيء يموت.
هذا أيضاً في مبدأ دو سوسور: “اللغات تعيش وتموت”. اللاتينية ماتت، واليونانية أيضاً. إلاّ أنّ في علم اللغات ما يبقى بعد الحياة والموت.
من جورج شحادة هذا النص:
“الفتياتُ موتى من كثرة الحب،
يَعُدْن أحياناً الى منازلهنّ، يَجلسْن على مقاعدهنّ الواسعة
تلاحقهُنَّ بالعَين المصابيح، يذهبن الى الجدران بحثاً عن ظِلِّهِنّ
تدير المرايا رؤوسَهُنّ، ويبقى الصوت مسموعاً”.
إنه ينظر بالصمت الذي تدعو إليه اللغة. لأن القصيدة التي تلتحق بالصوت (كما تلتحق الفتيات بظلِّهِنَّ) هي القصيدةُ التي تبقى.
هذا في إشارات اللُّغة باللُّغة، لأنها جملة إشارات تحطّم قيوداً تخرج منها الى مبعث الضوء حين ينبلج الفجر في المعنى.
يقول هنري زغيب: “الشعرُ في كينونته الأولى لحظةُ اندهاشٍ ومباغتَة جميلة. لحظةُ كيمياء تُحوِّل الكلام العادي كلاماً غير عادي، لحظةُ سحرٍ عجيب رائع حين يتولاّه شاعر يعرف كيف يلاعب الكلمات …”.
إن شيئاً ما يحصل في علم اللغة: تتقاذف المعنى كلماتٌ تهبط من الشمس أو الغيم مطراً يُحرق الأشياء الاعتيادية، يُحوّلها ذهباً أصفر. هكذا كان يفعل أصحاب الكيمياء: يُحوّلون التراب ذهباً بالكلمات.
في اللغة يَحدث ذلك. وهذا ما يرمي إليه هنري زغيب في “لغات اللغة”: يتوقّف عند الجدار، يُحطِّمه كما تَحَطَّم جدارُ برلين، ليصل الى المعنى. لكنّ المعنى في اللغة لا وصولَ إليه. من هنا أن اللغة تبقى، وإن كانت اللغات تموت.
غريبٌ كم هذا الشاعرُ متفلِّتٌ من القوانين، وإن كان عمله دراسةً في علوم النُّظُم والإبداع والأُصول.
وإذ ليس للبيت الشعريّ من حدودٍ في القافية، ولا في الإيقاع، ولا في الصورة الشعرية، يمكن اعتبارُ الشعر ملتقى هذه العناصر جميعاً، يبتعد عنه تَوَقُّع المجهول الأدبي ليُصبحَ الشعرُ نمطاً من أنماط المعرفة في المجهول. ليس مَن يُمكنه أن يقرأَ ما في داخل الصفحة البيضاء التي أسَّس لها ملارميه، ولا أن يصلَ الى أبعاد الرمز الذي أشار اليه پول ڤاليري، ولا أن يفهم كيف تقتفي الأصواتُ والألوان والأضواء معاً صورةً تبتدئ ولا تنتهي.
هذه الصورة المترامية الأطراف يلحق بها هنري زغيب كما تلحق فتيات جورج شحاده ظِلَّهُنّ، يَمشين وإن كُنَّ مُمَدَّداتٍ على الكراسي الطويلة.
هنا تقع لغة اللغات في موطن اللالُغة حيث تحطُّ رفوف الطيور عند سان جون پرس وأجنحتها.
“الفتيات الموتى من كثرة الحب” لا يمكن أن يلحق بِهِنَّ أحَدٌ إلا في الشعر الذي يتّسع اتّساع اللغة وهي تبحث عن المجهول في المعنى، ما يعني أن العلاقة بين المعنى وما تحمله الصورة الشعرية تبقى علاقةً مستحيلةً ليبقى الشعر فصلاً من فصول عالم المستحيل حيث يسبح هنري زغيب.
إلا أن مياه النهر تجري ولا تتوقّف. هكذا كان يرى هيراقليطس في فلسفة الحركة الدائمة للأشياء، وعلى غراره سماحة السيد محمد حسين فضل الله في قصيدته “إلى أمة”.
لكنّ جوهر المسألة التي يتمُّ البحث عنها، يقع في اتّساع لغة جديدة يتمُّ البحث عنها في الارتطام داخل عالم جديد تَطْلَعُ فيه اللغةُ كما تَطْلَعُ الشمس من الانفجار الأول للكون، وكما يحصل الآن داخل انصهار ذرّيّ أَحدَثَهُ الزلزال العظيم في اليابان.
العناصرُ الكونيةُ يعاد اختلاطُها بالصَّهر الذي يُحْدِثُه الانفجار.
هو هذا علْمُ الغرابة: حيث يتوطَّأُ يحدث في المجهول، ثم يصلُ الى الانفجار لتتمَّ عمليةُ الانصهار في الحبّ الغريب، حُبّ “ناتالي التي بَزَغَتْ من حفيف فستان” كما يرى صلاح ستيتيه:
“يا ناتالي، وقد بَزَغْتِ من حفيف فستان
مدينتُكِ لحظةٌ من الشجَر
يا ظلَّ عشْق للرخام وأيّ رخام
حسْبهُ أن يلوِّن الخد بِخَدّ ناتالي”.
عن هذا المعنى يبحث هنري زغيب في كتابه “لغات اللغة”، عن لحظةٍ من الشجر، عن لونِ الرخام الذي منه خدّ ناتالي.
الصورة الجديدة في حاجةٍ الى لغة جديدة.
غير أن الصورة لا تنتهي. لذا لا تنتهي اللغة، بل لغةُ اللغات.
وأعتقد أن هذا هو معنى الكتاب: في المباغة الجمالية، في تَوَقُّع اللامُتَوَقَّع، في المفْرَدَة، وفي الجملة، أو في كل ذلك معاً. وكل ذلك في اتّساع الأُصول وفي الخروج منها الى الأصول الجديدة. فللصورة الجديدة أصولُها الجديدة. وكلُّ ذلك يكمن في اللغة. حين نقرأ هنري زغيب ندخل إلى علْم جديدٍ يتوازى مع المسعى الداخلي في علْم الإبداع.
الحق مع پول ڤاليري الذي يعتبر الكلمةَ كرةً أرضيةً كاملة، لكنها تتفَتَّتُ كما يُفَتِّتُ الذرَّةَ الزلزال، لأنّ البحث يتمّ عن إنشاء جدليةٍ جديدةٍ بين اللغة والنقاء في داخلها.
نعم: هنري زغيب – كما يقول ڤيكتور هوغو – يَبعث هواءً ثورياً في اللغة، فلا يعود فرقٌ بين كلمة وكلمة. تتساوى عنده الكلمات في عاصفة اللغات.
وأعتقد أنّ هذا هو معنى كتاب “لغات اللغة”.
كلمة الدكتورة نجوى نصر
حول كتاب “لغات اللغة” لهنري زغيب (ملخَّص الكلمة)
هذا كتابٌ، كاتبُه مهووسٌ بالأصول، مسكونٌ بالابداع، شغفٌ بالجماليا؛ لكن الكاتب يتخذ موقفاً “دفاعياً” ليعلن “على المدخل” أن كتابه “ليس كتاباً في النقد أو البحث أو الدراسة وفق المنهج “الأكاديمي” للنقد والبحث والدراسة… إنه بثٌ انطباعي”. أتخطى هذا الموقف، لأنه عندما تنطلق الكلمات عن ومن صاحبها يبقى مسؤولاً عنها لأن متلقّياً ما، في مكانٍ ما، من موقعٍ ما، قد يتلقَّفها ويبدأ التفاعل معها. وهذا ما حدث معي، فما إن بدأتُ قراءةَ الكتاب، وكما عادتي في القراءة وقد شوّهها اختصاصي، رحت تلقائياً أدوّن ملاحظاتي في الهامش.
بدايةً، يعج الكتاب بكمٍّ من المصطلحات يشكل بعضُها هاجساً عند الكاتب. يعود ويعود إليها مشيراً، محذراً، مدافعاً، مشدداً، ناصحاً، موصياً، لكنه يغفلُ عن تحديدِها. مثلاً: تشكّل مفاهيم الجماليّة والأصول والابداع مرتكزات الكتاب، لكن تبقى بدون تعريف. ويفرّق الكاتب بحزمٍ وجزمٍ بين لغةِ الشعرِ ولغةِ النثر. هذا الجزم والتأكيد موقف ذاتي، فاللغة هي المواد الأولية ولا تختلف إلا باختلاف استعمالها، فهناك استعمال للغة في الشعر كما استعمال شاعري للغة في النثر. الاختلاف هو باختلاف أساليب الاستعمال والاختيارات ورصفها في تراكيب وفي ترتيب التراكيب.
في الحديث عن الإيقاع يشير إلى أن في اللغة كلمات، والكلمات من أحرف. وانا أفضل استبدال “الحرف” بـ “الصوت” (انسجاماً مع الكلام على “الموسيقى”). فللصوت رنين، وللحرف رنين متى قُرئ بصوت عالٍ أو بصوت صامت يتردد صداهُ في المخيلة، وهذا ما يدعوه دو سوسّور De Saussure الـ acoustic image. ومتى تجاورت الأصوات (سواء تجسَّدت في أحرف كتابة أو بقيت أثيرية) يمكننا الكلام على التنافر أو التناغم. ويتابع الحديث عن الكلمات واختيارها. إن الشعراء برأيي، كسائر الفنانين، حساسون للمادة التي يستخدمونها في التعبير، ينتقون منها عناصرَهم ويركّبونَها بأسلوبِهم، وغالباً ما تكون عمليتا الانتقاء والتركيب لاإراديَّتَين، كما قال الشاعر البريطاني وليام بلايك William Blake: “ضد إرادتي لا عن سابق تصور وتصميم”.
يصنّف الكاتب الكلمات (ص63) بقوله: “في اللغة كلمات تصلُحُ للنثرِ ولا يمكنُ أن تدخلَ في الشعرِ…” فيشير إلى كلمة باخرة بأنها نثرية وسفينة بأنها شاعرية. ولكن كيف تستخدمُ كلمةَ سفينة وجِرْس أصواتها الناعِمِ النَغَمِ في قصيدةٍ عن بحرٍ هائجٍ لا تستطيع أن تمخرَ عُبابَه سوى “باخرة” لا “سفينة”.
أهميةُ هذا الكتاب في أنه طرح أموراً أساسيةًً حول لغة الإبداع الأدبي في وقت نحن بحاجة فيه إلى المزيد من المراجع في مواضيعِ استخدامِ اللغةِ في الأنواع الأدبية كافةً، نثراً كانت أم شعراً، قولاً كانت أم كتابة، كما في تحليل الخصائصِ والمميزاتِ الألسنية للنصوص الإبداعية. فيأتي هذا الكتاب ليسدّ فراغاً بكل صدقٍ، وبناءً على تجربةٍ غنيّة.
كلمة الدكتور منيف موسى
في كتاب “لغات اللغة” للشاعر هنري زغيب
بيانٌ نقديٌّ في أُصُول فنّ الكتابة شعراً ونثراً
“لغات اللغة، نُظُم الشعر والنثر بين الأصول والإبداع” للشاعر هنري زغيب (“دار السّاقي”- بيروت – 2011)، إصدارٌ طريف في هذا العصر، يضاف إلى البيانات الشعرية العربية الحديثة(*) منذ مطلع عصر النهضة العربية الأولى حتّى كتابة هذا النصّ.
الكتاب من قسمَين، الأوّل: “من مصادر الإبداع في الكتابة”، والآخر: “في التراكيب الجماليّة”، إضافةً إلى مدخل ومقدمة و”نحو الخلاصة”. وفيه يؤسس هنري زغيب- جمالياً- لقاعدة أصول الكتابة في مستواها الراقيّ، الإبداعي والجماليّ، حيث يكون عنده عنصرُ المباغتة- المفاجأة/الدهشة، أساسُ تكوين الشّعر والنثر. فهذانِ النمطان من الكتابة ليسا أُلْهِيةً أو لعبةَ رصّ كلمات. ليس شعراً عنده كلُّ كلامٍ موزون مقفّى.
الشّعر – والحال الكتابية ساعةَ المخاض الإبداعي – لَمعةُ ذهن، أو خاطرة، أو فكرة، مُؤْتزرة بشفيف العاطفة والوجدان، مَسَّها خيالٌ تصويري في نقل المطلق إلى حيّز تقييد الفكر في نَسَقٍ من الكلمات الموحية، ذاتِ إيقاعٍ موسيقيٍّ هو نغَم الكتابة في أيّ بناء شعريّ أو نثريّ، حيث تغدو الفكرة/القصيدة موسيقى ألفاظ تتناغم فيها الصورة والعاطفة والخيال.
هكذا يصير الكلام شِعراً ساكناً قصرَ النّغم، على جماليةٍ أسلوبية تنقل الكلام من حدّ الحديث العاديّ إلى حدّ الابتكار، وفي أُشغولةٍ جماليةٍ تبني عمارةً من الهندسة الشعرية في تكوين ما هو ذهنيّ، ليقَعَ الشعر تحت جوهر الأصالة نغماً ومعنىً، فيتشارك الذّوق بكل مكنوناته ومكوّناته الحسيّة والمجرّدة والحواسّ جميعاً في عملية الإبداع/الولادة، منقولةً إلى الآخر/المُتلقي بوساطة اللغة التي هي أداةُ التكوين الشعري حرفاً ولحناً.
ومتى دخل الشاعر منطقة الكلمة الشاعرة، كَوّن قصيدته لا في “ما” يقول، بل في “كيف يقول”.
أُحدوثة الـ”كيف” تُحدّد قوة الابتكار الشعري أو النثري، وشعريةُ الجمال المبدع تخترق حُجُبَ الشاعر الأصيل مثلما تخترقُ حجب الناثر الأصيل في أقاليم اللغة. والإبداع الخلاّق يكون في الشعر كما يكون في النثر. والحداثة تعني التجديد من داخل اللغة. ليست في طلاق مع اللغة، ولا كسراً أُصولَ الإبداع في تحديثها.
يقول هنري زغيب: “قَدَرُ الشاعر أن يُجدِّد في اللغة، شعراً ونثراً. ولكلّ نمطٍ كتابيّ لغتُه. من هنا تكون عندنا لغاتٌ في اللغة، ومن هنا نفهم الجدلية الجمالية في علاقة الأصول بالإبداع، أو الإبداع بالأصول”.
الإبداع “خَلْقٌ كما من عدم”. هو الجديد الذي لا شبيه له. وهو يناقض التقليد. ومن هنا نفهم قضيّة الاتّباع والإبداع. وإذا كان الإبداع ابتكاراً، فهو إذاً تَبَلُّرُ تراكمِ عناصرَ فكرية وعاطفية وخيالية ماضية وحاضرة في آنٍ معاً.
والشعر سحر. والسحر في الكلام ما أوْدع في صوغ معنىً. وقول الشعر كرةُ إبداع في نسج اللغة التي يستقي الشاعر منها عَصَب قصيدته: الكلمات/الألفاظ، التي هي رموزٌ وإشاراتٌ يلوّح بها الشاعر على المعاني تلويحاً: يُوجز الكلام فيصير أكثر حُسناً وأجمل.
والنّظْم مبنيٌّ على الذّوق، ولو نُظِمَ الكلامُ بتقطيع التفاعيل. وإذا كان هذا في الشعر، فمِثْلُهُ في النثر العالي، والجميل من منثور الكلام أن تكون فواصلُ النثر متساويةً في الإيقاع.
ومتى شَفَّت اللغة في النثر واتّزن الإيقاع، يمكن عندها أن يدخل النثرُ إقليمَ الشّعر في عُنصُرَي التركيب البنائي والإيقاع العَروضيّ، باعتبار الشعر في معمارية القصيدة لغةً وفكرةً وعاطفةً وخيالاً وموسيقى. عندها تأتي القصيدة منحوتةً/بدعةً ذاتَ حياة، يصحّ فيها قول المتنبّي “تناهى سكونُ الحُسْن في حركاتها”. ذلك أنّ للألفاظ في الأُذن نغمةً لذيذة كنغمات الأوتار، ولا سيما مخارج الحروف التي تشكّل نغماً داخلياً يتساوى مع النّغم الخارجيّ في هندسة القصيدة.
اللغة في الشعر لا لتصرّح بل لتومئ، فيصحّ قول أبي إسحاق الصابئ: “أفخَرُ الشعر ما غَمُضَ فلم يعطِكَ غرَضَهُ إلاّ بعد مماطلة”. وإذا كان هذا في الشعر، ففي النثر خيرُه ما وَضُحَ معناه في زيّ جميل متناسق، حيث يكون الإيجاز بألفاظٍ دالةٍ على المعاني من غير أن تزيد على تلك المعاني. وإذا كانت الألفاظ خَدَم المعاني، بحسب مقولةٍ عربية قديمة، فالعنايةُ بالألفاظ وتهذيبها غايةُ فنّ الكتابة شعراً ونثراً. فذلك أوقعُ لها في النفْس، وأذهبُ بها في الدلالة على القصد.
ومثَلُنا هنا مقولةُ أبي تمام: “وطن النُّهى” إيماءً إلى الرأس أو العقل، أو كما في بيته:
وَلِهَتْ فأَظلمَ كلُّ شيء دونَها وأضاءَ منها كلُّ شيءٍ مُظلِمِ
يقول هنري زغيب: “آيةُ الشاعر أنْ يُنسيك النّظم في قصيدته، وعلامةُ الناثر المبدع أنْ يُهدهدَك نثره برعشة الصّوغ، وفيهما هيبة الإبداع”. وفي السياق نفسه يقول خليل رامز سركيس عن والده: “إذا قرأنا نصّاً إبداعياً مُعجباً هتفْنا: أنثراً كان أم شعراً؟ ألله ألله! لا شِعرٌ هذا ولا نثر. هذا قصر”.
بمثل هذا، حدَّثَنا هنري زغيب في كتابه “لُغات اللغة”.
وأكثر: توغَّلَ في جغرافيا الكتابة مُنَظِّراً ومُطَبِّقاً، راسماً أقاليمَ الشعر والنثر، بانياً أعمدةً/ثوابتَ في أُصول الصَّوغ الإبداعي، وحارساً حُدودَ الأصالة في التكوين التأسيسي للخلْق الفني المبدع، فجاء كتابُهُ بياناً نقْدياً في التنظير والتطبيق، مُوائِماً في ثالوثية الكتابة: الشاعرَ والناثرَ والنصّ.
والحديث عن الأدب الراقي والفنّ الراقيّ، ذكّرني بـ”كتاب الصناعتَين” لأبي هلال العسكري، أو كتابات الجرجاني أو كتابات النّفري عند العرب، وكتابات بْوَالو أو كتابات رِمْبو أو كتابات پول فاليري عند الفرنسيس وأَضرابهم مِمَّن حملوا هَمّ الشّعر وصيانة مملكته.
وعندي، من قراءتي كتابَ صديقي هنري زغيب، مأثورةُ النِّفَّري: “كلّما اتّسعَت الرؤيا ضاقت العبارة”.
وهنري زغيب رأى، فكَتَبَ، فأوْجَزَ، فأبدَع!
___________________________________
(*) يمكن في هذا الموضوع مراجعة منيف موسى في:
1- “الديوان النثّري لديوان الشعر العربي الحديث”، ط 1، المكتبة العصرية- صيدا- بيروت- 1981.
2- “نظرية الشعر عند الشعراء النّقاد من خليل مطران إلى بدر شاكر السيّاب”، ط 1، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1984.
3- “شجرة النّقد”، ط 1، منشورات ميريم، بيروت، 1992.
4- “أضواء على البيانات الشعرية العربية الحديثة”، مجلة “قطوف”- منتدى طرابلس الشعري، العددان 1 و2، ربيع 2005، السنة 2، ص 73-84.
المجلس الثقافي للبنان الجنوبي
ناقش هنري زغيب في كتابه “لغات اللغة”
في لقاءات “كتاب الشهر” للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، دعا المجلس إلى ندوة أدبية لمناقشة كتاب “لُغات اللغة – نُظُمُ الشعر والنثر بين الأصول والإبداع” للشاعر هنري زغيب (عن “دار الساقي”)، في حضور جمهور من الأدباء والشعراء والصحافيين والمثقفين.
شارك في النقاش النائب الدكتور مروان فارس، الدكتورة نجوى نصر، الدكتور منيف موسى.
افتتح الجلسة مدير الندوة عضو الهيئة الإدارية في المجلس الدكتور شفيق البقاعي، بكلمة أوجز فيها سيرة هنري زغيب الثقافية، وأضاء على كتابه الجديد بأنه “ينطلق من الكلمة، واللغة اصطفاف لها. فهو الشاعر الحداثي المجدّد المؤمن بارتباط الأدب الحديث، شعراً ونثراً، بالقديم الذي انسلّ منه. وهو يرى أن الشعر ظاهرة عقلية لا صوتية فقط، لأن العمارة الشعرية لا تقوم إلا بهندسة يشرف عليها العقل. وهو وضع خلاصة فكره النظري في هذا الكتاب، الذي جاء يحمل وجهة نظر تستحق الملاحظة والتقدير، وهو جدير بالقراءة والإفادة من عمق تحليله وبُنية المنطق الذي يقدمه في فصول الكتاب، عبر أسلوب لذيذ سكبه بألوان قوس قُزح يعانق فيه رذاذ المطر شفيف خيوط الشمس الذهبية… وما قدمه هنري زغيب في هذا الكتاب فيه إقناعٌ للقارئ، وإنصاتٌ للعالِم، وتشويق لطريقة تواصله مع المفهوم الذي جال فيه قبله أعلام كبار قديماً وحديثاً، أمثال عبدالقاهر الجرجاني والجاحظ وابن قتيبة والخليل بن أحمد الفراهيدي”.
المداخلة الأُولى كانت من النائب الدكتور مروان فارس الذي رأى في الكتاب ” أكثر من محاولةٍ في فهم الأحداث التي يريد العقل أن يعبّر بها عن ذاته. إنه كتابٌ في علْم الإمكان اللغوي، لأنّ كلّ شيءٍ يعيش هو كلُّ شيء يموت. إلاّ أنّ في علم اللغات ما يبقى بعد الحياة والموت… يقول هنري زغيب: “الشعرُ في كينونته الأولى لحظةُ اندهاشٍ ومباغتَة جميلة. لحظةُ كيمياء تُحوِّل الكلام العادي كلاماً غير عادي، لحظةُ سحرٍ عجيب رائع حين يتولاّه شاعر يعرف كيف يلاعب الكلمات …”. إن شيئاً ما يحصل في علم اللغة: تتقاذف المعنى كلماتٌ تهبط من الشمس أو الغيم مطراً يُحرق الأشياء الاعتيادية، يُحوّلها ذهباً أصفر. هكذا كان يفعل أصحاب الكيمياء: يُحوّلون التراب ذهباً بالكلمات. في اللغة يَحدث ذلك. وهذا ما يرمي إليه هنري زغيب في “لغات اللغة”: يتوقّف عند الجدار، يُحطِّمه كما تَحَطَّم جدارُ برلين، ليصل الى المعنى. لكنّ المعنى في اللغة لا وصولَ إليه. من هنا أن اللغة تبقى، وإن كانت اللغات تموت. فالعلاقة بين المعنى وما تحمله الصورة الشعرية تبقى علاقةً مستحيلةً ليبقى الشعر فصلاً من فصول عالم المستحيل حيث يسبح هنري زغيب. غريبٌ كم هذا الشاعرُ متفلِّتٌ من القوانين، وإن كان عمله دراسةً في علوم النُّظُم والإبداع والأُصول، فهو يَبعث هواءً ثورياً في اللغة، فلا يعود فرقٌ بين كلمة وكلمة. تتساوى عنده الكلمات في عاصفة اللغات”.
تلاه الدكتور منيف موسى فرأى أن الكتاب من قسمَين، الأوّل: “من مصادر الإبداع في الكتابة”، والآخر: “في التراكيب الجماليّة”، إضافةً إلى مدخل ومقدمة و”نحو الخلاصة”. وفيه يؤسس هنري زغيب- جمالياً- لقاعدة أصول الكتابة في مستواها الراقيّ، الإبداعي والجماليّ، حيث يكون عنده عنصرُ المباغتة- المفاجأة/الدهشة، أساسُ تكوين الشّعر والنثر. فهذانِ النمطان من الكتابة ليسا أُلْهِيةً أو لعبةَ رصّ كلمات. ليس شعراً عنده كلُّ كلامٍ موزون مقفّى”. من هنا أن كتاب هنري زغيب يضاف إلى البيانات الشعرية العربية الحديثة منذ مطلع عصر النهضة العربية حتى اليوم… يقول هنري زغيب: “قَدَرُ الشاعر أن يُجدِّد في اللغة، شعراً ونثراً. ولكلّ نمطٍ كتابيّ لغتُه. من هنا تكون عندنا لغاتٌ في اللغة، ومن هنا نفهم الجدلية الجمالية في علاقة الأصول بالإبداع، أو الإبداع بالأصول”. وهكذا توغَّلَ هنري زغيب في جغرافيا الكتابة مُنَظِّراً ومُطَبِّقاً راسماً أقاليمَ الشعر والنثر، بانياً أعمدةً/ثوابتَ في أُصول الصَّوغ الإبداعي، وحارساً حُدودَ الأصالة في التكوين التأسيسي للخلْق الفني المبدع، فجاء كتابُهُ بياناً نقْدياً في التنظير والتطبيق، مُوائِماً في ثالوثية الكتابة: الشاعرَ والناثرَ والنصّ. من هنا أن هنري زغيب رأى، فكَتَبَ، فأوْجَز”.
المداخلة الثالثة كانت للدكتورة نجوى نصر التي وجدت في هنري زغيب “كاتباً مهووساً بالأصول، مسكوناً بالإبداع، شغوفاً بالجماليا. وكتابه يعجّ بمصطلحات يشكل بعضُها هاجساً عنده، يعود إليها مشيراً، محذراً، مدافعاً، مشدداً، ناصحاً، موصياً، في مواقف ذاتية يغفل أحياناً عن تحديدها… وفي مكان آخر يصنّف الكلمات (ص63) بقوله: “في اللغة كلمات تصلُحُ للنثرِ ولا يمكنُ أن تدخلَ في الشعرِ…” فيشير إلى كلمة “باخرة” بأنها نثرية وإلى “سفينة” بأنها شاعرية. ولكن كيف يستخدمُ كلمةَ “سفينة” وجِرْس أصواتها الناعِمِ النَغَمِ في قصيدةٍ عن بحرٍ هائجٍ لا تستطيع أن تمخرَ عُبابَه سوى “باخرة” لا “سفينة”. ومع كل ذلك، تبقى أهمية الكتاب في أنه طرح أموراً أساسيةًً حول لغة الإبداع الأدبي ويرضي بعض حاجتنا إلى مراجع لاستخدامِ اللغةِ في الأنواع الأدبية وفي تحليل الخصائصِ والمميزاتِ الألسنية للنصوص الإبداعية. لذا جاء هذا الكتاب يسدّ فراغاً بكل صدقٍ، وبناءً على تجربةٍ غنيّة”.
وفي ختام اللقاء أجاب الشاعر عن أَسئلةٍ وردت في مداخلات المحاضرين، وشرح مواقف له في الكتاب من الشعر والنثر، ورأيه لا في “ماذا” يقول الشعر بل “كيف” يقول.
وبعد الندوة وقّع الشاعر على كتابه الجديد.
كلام الصورة
مناقشو “لغات اللغة” من اليسار: الدكتور شفيق البقاعي، الدكتور منيف موسى، الدكتور مروان فارس، الدكتورة نجوى نصر