12 شباط 2008 العدد 12464 السنة 36
ليس من عادتي (ولن يكون) أن أمدحَ حاكماً أو حُكماً في أية دولة من العالم، حتى ولا في لبنان. غير أنّ هذا لا يُلغي الاعتراف ببادرة من الدولة (التي لا نتردّد عن فضح مثالبها وقراصنَتِها) حين تُقْدم، كدولةٍ راعيةٍ حاميةٍ ضامنةٍ شعبَها، على مشروعٍ تكفل به لا ديمومةَ كرامة شعبها راهناً وحسْب، بل الاحتسابَ والتحسُّبَ وحسابَ غدْرات الزمان حتى تَأْمنَ الأجيالُ المقبلة مصيرها من غدرات الزمان وما أكثرها، خصوصاً في هذا العالم العربي القائم معظمه على التوتاليتاريا والأوتوقراطيا واللاديمقراطيا، وعلى مزاجية حاكم أو تسلط أولاده أو حاشيته أو مَحاسيبه.
من هذه المشاريع الاستشرافية النبيلة، ما عرفتُ به قبل أيام في بيروت من صديقي المحامي الكويتي الكبير عبدالعزيز طاهر عن مشروعٍ في الكويت يدعى “صندوق الأجيال المقبلة” (“المقبلة” أفضل من “القادمة” لأن القادم هو الواصل سيراً على قدميه بينما المقبل هو الآتي حسياً أو معنوياً، وفي أي شكل كان).
في البدء لفتني الاسم: “صندوق الأجيال المقبلة”. واستفسرتُ أكثر فإذا هو صندوقُ احتياطٍ كبيرٌ بإشراف الدولة مباشرةً، تتولاّه “الهيئة العامة للاستثمار”، ريعاً وإدارةً وإنشاءَ مشاريعَ استثماريةٍ مَحلية وفي كل العالم، ما يَجعل المبالغ فيه تتضاعف مراراً.
وعلمتُ أنّ هذا الصندوق كان العونَ الأكبر في الضيق على أثر الغزو العراقي “الأخوي”، فنال كلُّ كويتي (في الكويت أو حيثما كان في العالم) ما أعانه على العيش بكرامةٍ وتَهيئة عودته الى بلده الغالي أو ترميم ما دمّره الغزو “الأخوي” في ممتلكاته الغالية.
كما علمتُ أنَّ فكرة إنشاء هذا الصندوق هو التحسُّب للطوارئ (كالغزو “الأخوي”، أو الشح المفاجئ في موارد النفط عن المطلوب أو المتوقَّع)، وأنّ تَمويل هذا الصندوق يتمّ بتحويل فائض الخزينة إليه، وتبقى لديه الأموال المودَعَة فيه، لا الى مَساس، مهما ازدادت ومهما فاضَ فائضُها عن فائضِها (بدأت بـ15 مليار وتبلغ اليوم نَحو 150 مليار)، انطلاقاً من مبدأ أن الاستثمار يَجلب الثِمار، والثِمار تَجلب طمأنينة الاحتياط، والاحتياط هو الرادع الأقوى في صدّ عاديات الزمان.
من هنا دخولُ الكويت، كدولة، الى مشاريع كبرى في مدن العالم وعواصمه، مشارَكةً أو أسهُماً أو إسهاماً أو إنشاءً، ما يزيد من الربح والدخل والمردود على تغذية هذا الصندوق الفريد.
كلامٌ من هذا النوع، مشروعٌ من هذا الحجم، لا يعودُ في حاجةٍ الى تعليقٍ ولا حتى الى شُكران، فمفعوله أعلى وأغلى وأحلى من كل كلام. ومهما يبلغ الهدر والفساد في بلدٍ، أيِّ بلد، يبقى لديه احتياطٌ تتَّخذه الدولة حامياً من كلِّ سقوطٍ في مهاوي الهدر أو العجز أو الاستدانة أو أفخاخ الفساد. ومتى تنبَّهت الدولة الى اكتناز الاحتياط وتوظيفه واستثماره ومضاعفة كنوزه، لا تعود جغرافياها هي الرافعة والضمانة ولا ديموغرافياها.
هكذا نَحن في لبنان (وتَجمعُنا بالكويت ضآلةُ الديموغرافيا في الداخل وضآلة الجغرافيا في الجوار والمحيط) نعرف أن احتياطنا الأكبر هو في العقل اللبناني الخلاَّق الذي هو الضمانةُ الوحيدة، في هذا الزمان اللبناني السياسي الوَغْد، بعدما تَعْبُرُ هذه الغيمةُ الجنائزية من فوقنا ويسقط في الفضيحة طقمٌ كاملٌ من سياسيين لبنانيين باعوا ضمائرهم من نَخَّاسي الدول وتُجَّار الشعوب.
وهكذا يبقى التعويض في اكتناز العقل. وأكبر الحكمة ما يبنيه هذا العقل في ماضي الأجيال المقبلة، كما في الكويت.
يا سياسيّي لبنان المتشاتِمين على سطوح العار: هل تتّعظُون؟