12 حزيران 2007 العدد 12223 السنة 36
في رحلتي الى شانغهاي قبل عامين، وخلال زيارة الى مؤسسة صينية عامة، رأيتُ عند مدخلها خارطةً مصوّرةً كبيرةً عليها أرقام وشروح وصوَر ومُخططات، توضح للزائر ما تُخطّط له الدولة (وبدأت بتنفيذه طبعاً) للسنة التالية في شانغهاي، ثم للسنوات الخمس التالية، فللسنوات العشر التالية وصولاً الى السنة 2015. وفي أسفل الخارطة “وعْدُ” أن تنشر الدولة بعد أقل من سنتين أرقاماً وتصاميم يجب تنفيذها حتى السنة 2025.
هذه ملحوظة من عشرات صادفتُها في هذه القارة التي اسمها الصين، والتي – أنّى تَجوّلتُ على ثلاث مدن زرتُها: بكين، نانْجين، شانغهاي – وجدتُ فيها “ورشة” متواصلة كأنها في البدايات وتنهض من صحراء اليوم الى ناطحات السحاب غداً.
الشاهد من هذا الكلام أنّ الدولة التي تقوم على رجال دولة، تبقى متواصلة من رجلٍ فيهم الى آخَر، لأنَّ مَن في الحكم جاء الى الحكم كي يَخدم الدولة بأن يضع خبرته وتجربته ووقته وتفكيره الخلاَّق وحسنَ إدارته في سبيل تطوير الدولة، فيسلّم وظيفته بأفضل مِما استلمها، ويكون خير سلف لخير خلف فتنتقل مفاصل الوطن من رجل دولة الى رجل دولة ويتواصل التصميم.
الشاهد الآخر من هذا الكلام: أين نحن من هذا النسَق في الحكم؟ وما الذي يفعله رجال الحكم (في معظم العالم العربي عموماً وفي لبنان خصوصاً)؟ وهل عندنا من يجيء فيخطّط وينفّذ ثم يسلّم بعده مَن يُواصل التخطيط والتنفيذ خدمةً للدولة وللشعب؟
عن السفير اللبناني العريق فؤاد الترك في الفرق بين رجل الدولة ورجل السياسة أنّ “الأوَّل يعمل على أنه هو ملك الدولة، والأخير يعمل على أن الدولة ملك له ولأزلامه ومحاسيبه ومصالحه الشخصية والخاصة”. وعنه أيضاً أن “رجل السياسة يعمل للانتخابات المقبلة، ورجل الدولة يعمل للأجيال المقبلة”.
وكم هذا التشخيص ينطبق على فردانية وشخصانية وزبائنية يتعاطى بها رجال السياسة (عربياً في صورة شبه عامة، ولبنانياً بصورة أخص) حتى بلغوا بلبنان اليوم هذا الدرْك من الوهن في الحكم ما جعل الأمم المتحدة ترخي برعايتها علينا لأن رجال السياسة عندنا منقسمون بين حردان وزعلان، بين مَمسوس ومهووس، بين موتور ومَحرور، والناس بينهم حائرون تائهون هاربون خارج الوطن عند الحصول على أول تأْشيرة سفر الى أيّ زيمبابواي متاحة، لأنهم لا يجدون من يعمل للدولة ومستقبل أبناء الدولة، بل سياسيين يعملون للمصلحة الشخصية الفردية الانتخابية، ولطموحات سياسية أو زعاماتية أو نيابية أو وزارية أو رئاسية، وليكن ما يكون، وليهبط سقف الوطن على الجميع، فـ”عليّ وعلى أعدائي يا رب”، و… “بعد حماري لا ينبت حشيش”.
مشكلتُنا في لبنان أنّ الذين حكَموا (في أغلبيتهم الساحقة) لم يبنوا دولة للمستقبل، بل عزَّزوا ما ورثوه من الماضي أباً عن جدّ، أو بلغوه في الحاضر: مزارعَ وقبائلَ وعشائرَ وتشكيلاتٍ عائليةً وحزبية ومذهبية ودينية ومناطقية ومَحسوباتية، و”اسبطرّوا” على أكتاف الناس وما زالوا، ويرمون الى الناس وُعوداً كاذبة دجَّالة، كي تظل لهم أغنامٌ وقطعانٌ، وكي يظل الناس لديهم مَحاسيبَ وأزلاماً يحملون لهم الكراسي كي يظلُّوا هم على الكراسي.
ولن يستقيم للبنان مستقبلٌ ولأجياله الجديدة رجاء، إلاّ يوم يَحكُمُه رجالُ دولة لا رجال سياسة، ومتى يتحوّل فيه جميعُ الناس مواطنين ذوي صوت حر، لا مَجموعات أزلام يخشعون أمام أصنام.