رومنسيَّة دولاكْرْوَى بين الشاعرية والإِباحية والشغَف (2 من 3)
“كليوباترا والفلَّاح” (1838)
عن تاريخ الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر أَنَّ الرسام الفرنسي أُوجين دولاكْرْوَى (1798-1863) هو الممثل الأَول للرومنسية في عصره. وهو حافظ على هذه النزعة طيلة حياته وعلى امتداد أَعماله جميعها. وبلغ من الشهرة، منذ هو في الأَربعين، أَن تتالت عليه طلبات الدولةُ رسميًّا بـوضع لوحاتٍ لوجوه ومناظر في الأَماكن العامة ومؤَسسات الدولة، منها على القماشة البيضاء، ومنها على الجدران والسقوف. وإِلى اللوحات، ترك محفورات وليتوغرافيات ومقالات كثيرة لعدد من المجلات في عصره، ودفتر مذكرات طُبِع بُعَيْد وفاته وأُعيد طبعه مرارًا. لفتَ إِليه المعنيين منذ “صالون باريس 1824” وانطلق ينتج أَعمالًا كبرى ذاتَ مواضيع تاريخية أَو أَدبية أَو وطنية عامة.
في هذه الثلاثية عنه، أُعالج أَعماله المتراوحة بين الشاعرية والإِباحية والشغف والقوة، وسْط بيئة تشكيلية تراوحت بين الرومنسية والنيوكلاسيكية.
بعدما قدمتُهُ إِلى القرّاء في الجزء الأَول من هذه الثلاثية، هنا في هذا الجزء الثاني بعضٌ من أَعماله التي تُكَرِّسُه رومنسيَّ عصره التشكيلي وكلِّ عصر.
جُنون الشَغَف
واصل دولاكْرْوَى استلْهام مؤلفات الأَدب في لوحاتٍ له، بينها أَعمال شكسبير “هاملت”، “ماكبث”، أَنتوني وكليوباترا”، محاولًا إِبراز التخبُّط الداخليّ في نفسيات الأَشخاص أَكثر مما هو ظاهر في حركاتهم. ففي لوحته “كليوباترا والفلَّاح” (1838) تبدو الملكة المصرية ترمق الأَفعى التي ستنتحر بلَدْغتها. ومن وجه الفلَّاح والظلال حول يديه تبدو قسوتها في اختيارها طريقةَ الانتحار، نتيجة الضغوط القاسية المرهِقة في المجتمع الذي أَدى بها إِلى هذا الاختيار. مع ذلك، تبدو كليوباترا في اللوحة هادئة مستكينة مع بعض الحنان في الوجهَين (هي والفلاح)، لأَن لدغة الأَفعى ستُوْدي بها إِلى لقاء عشيقها.
الرومنسية والدين
لم يكن الدين موضوعًا تشكيليًّا سائدًا في القرن التاسع عشر. مع ذلك رسم دولاكْرْوَى لوحاتٍ مستوحاةً من الكتاب المقدس (العهد القديم)، لأَنه كان يحب أَن يبدو معاكسًا كبارَ الرسامين قبله ممن لم يرسُموا مواضيع دينية. لذا رسم هو مشاهد فيها التعذيب النفسي والجسدي، أَو فيها مناظر مأْساوية من الطبيعة. من هنا وضْعُهُ لوحةَ “صلب المسيح” (1846) و”دفن المسيح” (1820) و”يعقوب يصارع الملاك” (1888).
أَما لوحته “المسيح في بحر الجليل” (1854)، فوضعها، تأَنِّيًا، ست مرات متتالية كي يرضى عنها. وهي من الكتاب المقدس (العهد الجديد) عن المسيح الذي كان في المركب مع تلاميذه الصيادين، وظل هادئًا حتى حين هَبَّ النوُّ الشرس، فهدَّأَهم وطمْأَنهم وهدَّأَ النَوّ. وكان من متَع دولاكْرْوَى في لوحاته أَن يرسم الأَنواء البحرية والعواصف البرية فتتحرَّك لوحته متماوجةً بصخب المنظر. من هنا جعل المياه غيرَ عميقة تحت المركب، كما جعل المسيح نائمًا في المركب بسكينة في العتمة. وعلَّق الشاعر الفرنسي شارل بودلير على لوحة دولاكْرْوَى ممتدحًا براعتَه في رسم الملامح، وخصوصًا في النور الناضح من وجه المسيح، كأَنه معزول عن سائر رفاقه في المركب.
“المسيح في بحر الجليل” (1854)
رسام الحيوانات
كانت العاطفة من العناصر الطبيعية لدى الرومنطيقيين في الكتابة والرسم. من الرسامين مَن ركَّزوا على المناظر والمشاهد الطبيعية لإِبراز القوة في الطبيعة وقوة العاطفة. ودولاكْرْوَى بدا في ذلك متأَثرًا بالرسامين البريطانيين مثل جون كونستابل (1776-1837) الذي عرض لوحته “العربة” (1821) في “معرض باريس 1824”. لكن دولاكْرْوَى لم يكن يرسم المناظر بل كان يحب أَن يرسم الحيوانات (الأَحصنة، الأُسود، النُمُور، …) لإِظهار القوة والبأْس ووسْع العاطفة في الطبيعة.
“صيد الأَسد” (1858)
“صيد الأَسد” (1858) إِحدى لوحات عنيفة وضعها دولاكْرْوَى تُظهرُ الصراع بين الإِنسان والطبيعة. وكان الرسام، ، بعد سنتين من غزو فرنسا الجزائر، زار شمال أَفريقيا سنة 1832 عضوًا في بعثة دبلوماسية مع أَول سفير لفرنسا إِلى المغرب شارل إِدغار دومورناي (1803-1878)، في فترة استعمار فرنسي أَتاحت للرسام التنقُّل في تلك المنطقة، خصوصًا في المغرب والجزائر، فعاد من تلك البلاد بمفكرة غنية وتدوينات كثيرة ومخططات لمشاريع لوحات غذَّت مخيِّلته لاحقًا كي يضع لوحاته عن تلك الجولة التي أمضاها بين الحر الشديد والفلوات الجرداء الوسيعة. هناك شاهد الأَسد في حديقة حيوانات. لم يكن الأَول في رسم ذلك، فقبْله كان الرسام الإِنكيزي جورج سْتابْسْ (1724-1806) وضع مجموعة لوحات في موضوع “حيوانات برية تهاجم الأَحصنة”، وكذلك الرسام الهولندي الفلمنكي بيتر بول روبنز (1577-1640) وضع لوحة “صيد النمر” (1615). لكن لوحات دولاكْرْوَى تميزت بحدَّةٍ أَكثر ووحشيةٍ أَقسى مما لدى سابقيه.
في الجزء الثالث من هذه الثلاثية: نماذج أَخيرة من أَعمال دولاكْرْوَى الرومنسية