رومنسيَّة دولاكْرْوَى بين الشاعرية والإِباحية والشغَف (1 من 3)
“الحرية تقود الشعوب” (1830)
عن تاريخ الفن التشكيلي في القرن التاسع عشر أَنَّ الرسام الفرنسي أُوجين دولاكْرْوَى (1798-1863) هو الممثل الأَول للرومنسية في عصره. وهو حافظ على هذه النزعة طيلة حياته وعلى امتداد أَعماله جميعها. وبلغ من الشهرة، منذ هو في الأَربعين، أَن تتالت عليه طلبات الدولةُ رسميًّا بـوضع لوحاتٍ لوجوه ومناظر في الأَماكن العامة ومؤَسسات الدولة، منها على القماشة البيضاء، ومنها على الجدران والسقوف. وإِلى اللوحات، ترك محفورات وليتوغرافيات ومقالات كثيرة لعدد من المجلات في عصره، ودفتر مذكرات طُبِع بُعَيْد وفاته وأُعيد طبعه مرارًا. لفتَ إِليه المعنيين منذ “صالون باريس 1824” وانطلق ينتج أَعمالًا كبرى ذاتَ مواضيع تاريخية أَو أَدبية أَو وطنية عامة.
في هذه الثلاثية عنه، أُعالج أَعماله المتراوحة بين الشاعرية والإِباحية والشغَف والعاطفة، في بيئة تشكيلية تراوحت بين الرومنسية والنيوكلاسيكية.
الرسم الذاتي
كانت أَعماله في معظمها طلباتٍ من مراجع كنَسية وعلمانية معًا. في مطالعه لم يكن معروفًا برسم الأَشخاص، لأَن الذين رسمهم كانوا حلقة ضيقة من أَصدقائه أَو ممن كان هو معجَبًا بهم، بينهم مثلًا المؤَلف الموسيقي الإِيطالي/عازف الكمان الشهير عصرئذٍ نيكولو باغانيني (1782-1840). وهو في رسم الأَشخاص لم يركز على الملابس وما حول الشخص بل على نفسيته وحضوره. من هنا ما ظهر في رسمه الذاتي إِذ قلما اهتمَّ بثيابه كيفما هي، وبشعره المنفوش، ما لا يوحي أَبدًا بـمن هو أَو بماذا يفعل في لحظات وضْع اللوحة، على عكس رسامين آخرين وضعوا رسومهم الذاتية وغالبًا في يدهم فرشاةُ شَعر. أَما هو فلم يتعمَّد إِعلاء مركزه الاجتماعي، ولا تحسينَ ملامحَ في وجهه، ولا تفاصيل في اللوحة – أَو في خلفيتها – تستأْثر بانتباه الرائي أَكثر من الأَساس الجوهريّ الذي هو التعبير اللافت في وجهه وعينيه. لذا ركَّز الرسام على القوة والدقة في ملامحه من خلال خطوط دقيقة في جبينه وخدَّيه وذقنه، ما يجعل رسمه الذاتي بطاقةَ تعريفٍ بذاتِه كرائد رومنطيقي.
دولاكْرْوَى : “رسم ذاتي” (1837)
الثورة الرومنسية
نشأَ دولاكْرْوَى في أَجواء الثورة الفرنسية، وخصوصًا إِبان سنوات المعارك النابوليونية. وفي سياق الكتّاب والرسامين الرومنطيقيين عصرئذٍ، نحا إِلى أَفكار الديمقراطية والحرية والوطنية. وفي أَعماله الأُولى كما “مجازر كِيُوسْ” (1824) و”اليونان في خرائب ميسولونغي” (1826) تناول موضوع حرب اليونان التي ناضلت من أَجل الاستقلال عن السلطنة العثمانية. وتلك كانت أَهواء شاعره الإِنكليزي المفضَّل اللورد بايرون (1788-1824) وهو توفي في اليونان وهو يقاوم الإِجحاف العثماني.
في لوحته “اليونان في خرائب ميسولونغي” رمَزَ إِلى اليونان بامرأَة ترتدي الزيّ الوطني في مدينة ميسولونغي (غربيّ اليونان)، بعدما الحصارُ الثالث حوَّلها إِلى خرائب وإِلى إِذلال سكانها وإِبادتهم. في مقدمة اللوحة يدُ مقاتلٍ ممدودةٌ فوق الخراب، وفي البعيد مقاتل يرفع العلَم العثماني، فيما المرأَة/الرمز تنظر إِلى البعيد مذهولةً مستغربةً ما ترى، وفي وضعية يديها وزُرقة ثوبها ما يُذكِّر بمريم العذراء بعد وفاة ولدِها يسوع مصلوبًا. ومع ذلك تبقى على ملامح المرأَة علامات القوة والبطولة والأَمل.
“مجازر كيوس” (1824)
السياسة والقوة
سنة 1830 أَعاد دولاكْرْوَى صورة المرأَة/ماريان (رمز فرنسا) في لوحته “الحرية تقود الشعب” (1830)، رسم فيها مشهد الحواجز في باريس (إِبان كومونة 1830)، والشعب كله مجتمعٌ وموحَّدٌ تحت راية فرنسا. وكان دولاكْرْوَى بذلك يصوِّر أَحداث تلك السنة، فثورة 1830 أَطاحت عرش الملك لويس فيليب، لكنَّ اللوحة كانت أَكثر قوةً وتعصبًا من الواقع، فتمَّ حجبُها عن العرض.
وكانت الحرية من أَغلى المواضيع على قلب دولاكْرْوَى وريشته. لذا ركَّز على أَلوان العلم الفرنسي، وبقيَت هذه للوحة من روائعه الخالدة. وهو بها كان متأثرًا بمثاله الأَعلى الرسام الفرنسي تيودور جيريكو (1791-1824) ولوحته “طوافة السفينة ميدوزا” (1818)، قلدها دولاكْرْوَى مقلِّدًا إِياها بشكل شبه مطابق، وهي أَيضًا في قلْب الحدَث السياسي.
“اليونان في خرائب ميسولونغي” (1826)
في ظلال الشاعرية
غالبًا ما كان الأَدب مصدرَ إِلهام لخيال دولاكْرْوَى. أَولُ نجاح له كان سنة 1822 في لوحته ” قارب دانته”، استوحاها من فصل “الجحيم” لـدانته في رائعته الخالدة “الكوميديا الإِلهية” (1308-1321). وحماستُهُ للُّورد بايرون حملتْه إِلى وضْع عددٍ من اللوحات، بينها: “الباشا والخائن” (1835)، و”تحطُّم قارب دون جوان” (1840)، وهما مستوحاتان من قصيدتَين لبايرون في الموضوع ذاته. وعلى مسار عدد من الفنانين، استوحى كذلك المأْساة اليونانية، خصوصًا في لوحته “ميديا تهمُّ بقتْل أَطفالها” (1838). وهكذا، من تلك المصادر الأَدبية في قراءاته وتأَثراته تتبيَّن مناحي لوحاته الدرامية والعنفية وحتى الغريبة.
أَما لوحته “مقتل أُسقف لياج” (1829)، فاستوحاها من حدث واقعي استوحاه بدوره الكاتبُ السكوتلندي وولتر سْكوتّ (1771-1832) في روايته “كوانتان دوروود” (1823)، رسم فيها دولاكْرْوَى عددًا كبيرًا من الناس في لوحة من 116x91 سنتم، تدل على قدرة دولاكْرْوَى في إِعطاء الطابع الدرامي لعمله. وهذا ما أَثار ضدَّه عددًا من النقَّاد الذين رأَوا في لوحته دمويةً حيوانية فاحشة.
في الجزء الثاني من هذه الثلاثية: أَعمال أُخرى من روائع دولاكْرْوَى