150 سنة على ولادة الانطباعية (3 من 3)
من المعرض: لوحة مونيه “محطة قطار سان لازار”
في الجزء الأَول من هذا المقال عرضْتُ ظُروف “معرض 1874” الذي يقيمه حاليًا متحف أُورساي (Musée d’Orsay) في باريس من 26 آذار/مارس الماضي إِلى 14 تموز/يوليو المقبل احتفاءً بمرور 150 سنة على “ولادة” الفن الانطباعي.
وفي الجزء الثاني عرضْتُ الجناح الإِلكتروني (الافتراضي) من المعرض، وما فيه من وثائق نادرة عن معرض 1874.
في هذا الجزء الثالث الأَخير أُفصِّلُ ما في هذا المعرض من لوحات في صالاته.
صالات المعرض
في الصالة الأُولى من “متحف أُورساي”، مجموعةٌ ذاتُ عنوان واحد “دمار وإِعادة بناء” تضمُّ ليتوغرافيات، بينها اثنتان لإِدوار مانيه: الأُولى عن الفوضى في حصار باريس خلال الحرب الفرنسية الأَلمانية (1870) والأُخرى عن الصراع الدموي في كومونة باريس 1871.
بُزُوغ الثورة الصناعية
وفي المعرض كذلك وثائقُ عن الثورة الصناعية التي كانت باريس تشهدها، منها: مراحلُ تشييد “أُوبرا غارنييه” (1861-1875)، ونشوبُ أَبنية جديدة، وظُهورُ محطات سكك حديدية، وانفتاحُ مساحات باريسية للحدائق العامة، والانفجارُ الديموغرافي بازدياد عدد السكان، وبروزُ ظواهر اجتماعية جديدة. كل هذا مذكور في نصوص معلقة على جدار إِحدى غرف المتحف تشير إِلى أَن باريس كانت تجدِّد طابعها بمعامل ومصانع ومؤَسسات ومُنْشآت ومحالّ فخمة وأَماكن لهو وتسلية.
من هنا وهناك
في صالة أُخرى من متحف أُورساي بضع صوَر فوتوغرافية قديمة للمصور الفوتوغرافي نادار عن بعض أَعمال معرض 1874، بينها لوحة رُنوار “الباريسية” (1874) جيْءَ بها من المتحف الوطني في كارديف (عاصمة ويلز في المملكة المتحدة)، وهي للممثلة الفرنسية هنريات هنريو بطلة معظم أَعمال “مسرح الأُوديُون”، وكانت رمز السيّدة الباريسية المعاصرة، بأَناقة ملابسها وجمال قبعتها الشهيرة في زمانها.
إِلى جانبها لوحةُ رُنوار “الراقصة” (1874) بتنورتها البيضاء وحذائها الزهري (استعيرت من المتحف الوطني في واشنطن)، ولوحةُ مونيه “بولفار الكبوشيات” (1873-1874) وهي مستعارة من متحف نلسون (في مدينة كانساس من ولاية ميسوري الأَميركية)، وهي لزَوغة ناس في الساحة بين عربات الخيل. ثم لوحةُ رُنوار “شُرفة المسرح” (1874) مستعارة من مؤَسسة كورتولد في لندن، وهي لزوجين، تبدو الزوجة تتابع الجمهور فيما الرجل يتابع العرض المسرحي عبر منظار مُكبِّر.
مواضيع… مواضيع
وفي صالات أُخرى لوحاتٌ من سائر أُولئك الرسامين الشبان، مختلفةُ المواضيع بين أُسطورية وتاريخية و”مشرقية” وسُهول وجبال ومناظر طبيعية منوعة، بعضُها مستعار من المتحف الوطني الهولندي في أَمستردام، وبعضها الآخر من متحف الفنون الجميلة في بوسطن.
وتتوالى اللوحات في سائر الصالات من أَعمال معرض 1874، ولكنَّ بينها كذلك أَعمالًا لخمسة فنانين (من السبعة) عرضَا في معرض لاحق بعد 1874 دخل عليه رسامون آخرون، منهم رسام المنمنمات جورج سورا (1859-1891)، وبول سينياك (1863-1935)، والرسام الرمزي أُوديلون ريدون (1840-1916).
هكذا في حين “معرض 1874” يضم أَعمال رسامين هم اليوم أقل شهرة، تحفَل الصالات الأَخيرة من “متحف أُورساي” بأَعمال رائعة الجمال في سياق التيار الانطباعي، بينها لوحةُ مونيه “محطة قطار سان لازار” (1877)، ولوحةُ رنوار “رقصة في طاحونة لا غاليت” (1877).
فاشلٌ تجاريًّا… ناجحٌ تأْسيسيًّا
المؤْسف أَن “معرض 1874” – بما له من أَهمية تأْسيسية في إِطلاق تيار “الانطباعية” – لم يكن ناجحًا “ماديًّا”، فلم يُبَع سوى لوحة لرنوار، وثانية لمونيه، وثالثة لسيزانّ. من هنا أَن “الجمعية” (التي كان شكّلها الرسامون الشباب سنة 1873) وقعَت في الإفلاس وانفرط عقْدها، لكن عقْدها عقَدَ منعطفًا مهمًّا وخالدًا لتاريخ الفن في القرن التاسع عشر.
أَهمية البادرة التي أَقدَم عليها “متحف أُورساي” في هذا المعرض الاستعاديّ الكبير، أَنها ليست مجرَّدَ تكريم التيار الانطباعي بعد 150 سنة على ولادته، بل تخليدٌ لأُمسيةٍ ذات ربيعٍ من 1874 كانت فاتحةَ مرحلةٍ طبعت أَعمالُها سجلًّا ذهبيًّا في ذاكرة الفن العالَمي.