150 سنة على ولادة الانطباعية (2 من 3)
لوحة مونيه “شُرُوق الشمس”: منها انطلقت تسمية “الانطباعية”
في الجزء الأَول من هذا المقال عرضْتُ ظُروف “معرض 1874” الذي يقيمه حاليًا متحف أُورساي (Musée d’Orsay) في باريس من 26 آذار/مارس الماضي إِلى 14 تموز/يوليو المقبل احتفاءً بمرور 150 سنة على “ولادة” الفن الانطباعي، وهو يضمُّ مجموعةً رائعة ونادرة من 130 لوحةً.
في هذا الجزء أُفصِّلُ ما في هذا المعرض، وخصوصًا الجناح الإِلكتروني فيه.
لماذا المتحف الإِلكتروني؟
فكرةُ “الجناح الإِلكتروني” (أَو المعرض الافتراضي = فيديو يرافق الزوّار) في “متحف أُورساي” تهدف، كم جاء في الكتيِّب الخاص، إِلى أَن يعيش الزوار في مناخ “افتتاح المعرض تلك الأُمسية من 15نيسان/أَبريل 1874، جامعًا لوحات “جديدة كلِّيًّا على الجمهور الحاضر”. وهو ذاتُهُ شعور “الانطباع” الذي غمَرَ ذاك الجمهور أُمْسِيَتَئِذٍ، فكأَنَّ زوار اليوم يزورون “معرض 1874” كما زاره روَّادُهُ عامئذٍ.
يومها لم تكن ظاهرة الصوَر الفوتوغرافية والعناصر التوثيقية مأْلوفةً بعدُ لتُؤَرِّخ افتتاح المعرض الذي تولَّى فيه الرسامون تعليق لوحاتهم على جدرانه. لذا، تسهيلًا لزوار “متحف أُورساي”، قامت الشركة التي ركَّبَت “المتحف الإِلكتروني” بإِيجاد شخصية إِلكترونية من القرن التاسع عشر، سَمَّتْها “روز”، جعلَتْها “الموديل/الدليل” تدور على الشاشة مع الزوار كي “تستعيد” ليلة الافتتاح قبل 150 سنة، وتقودَهم طيلة 40 دقيقة على كامل الأَعمال المعروضة إِلكْترونيًّا.
- لقطة من فيديو المعرض الإِلكتروني
وثائق نادرة
وفي تلك الجولة “الافتراضية” أَيضًا إِطلالةٌ على أَمكنةٍ في الطبيعة كان يقصِدها أُولئك الرسامون كي يرسموا لوحاتهم مباشرةً فيها. ومن العناصر الغنية في هذه الجولة الإِلكترونية احتواؤُها على: صُوَر فوتوغرافية حديثة لتلك الأَمكنة، ونُسَخ من بطاقات الدعوة (سنة 1874 إِلى ذاك المعرض)، وإِيصالات الفنانين (للَّذين اشتروا لوحاتهم)، ونسخة عن “كاتالوغ” المعرض (وفيه التفاصيل الكاملة)، ورسائل بخط الرسامين، ومقالات من صحافة تلك المرحلة عن المعرض (والجدل الذي رافقه). وفي الفيديو كذلك يظهر “ستوديو باريس” (حيث أُقيم ذاك المعرض) بتفاصيله من الداخل والخارج. وكان نادار يومها استأْجر ذاك المبنى الباريسي (35، شارع الكبوشيات) بمبلغ 2500 فرنك لإِقامة الرسامين الذين كانوا، سنة 1873، شكَّلوا جمعية تعاونية باسم “جمعية الرسامين والنحاتين والحفارين والليتوغرافيين” ليستقلُّوا بعرضهم لوحاتهم، بعدما كانت “أَكاديميا الفنون الجميلة” رفضَت استقبال أَعمالهم في معرض “باريس 1869”. لذا كانوا يبحثون عن تَفتُّح ذاتي مستقل اقتصاديًّا وفنيًّا، عوض أَن يظلُّوا تحت رحمة تجار اللوحات والسماسرة وأَعضاء اللجنة التحكيمية الذين يَقْبلون أَو يرفضون اشتراك الأَعمال في “معرض باريس” الرسمي السنوي.
- من لوحات 1874: لوحة أُوجين بودين “غروب الشمس”
من 22 إِلى 31
كانت تلك الجمعية عند تأْسيسها تضمُّ 22 عضوًا، بينهم كلود مونيه وكميل بيسارو. وعند افتتاح المعرض في ذاك النيسان/أَبريل بلغوا 31 عضوًا، دفع كلٌّ منهم 60 فرنكًا لقاءَ الأَسابيع الأَربعة، ولقاءَ عرض عمَلَين لكلٍّ منهم. وكانت الصالة محجوزة لهم قبل أُسبوعين من موعد الافتتاح. وخلال شهر العرض (15 نيسان/أَبريل-15 أَيار/مايو 1874) قصد المعرض نحو 3500 زائر، وقطف نحو 60 مقالًا نقديًّا. حيال ذاك الإِقبال الكثيف، تردَّد في أَوساط باريس صدى واسع عن أَعمالٍ “انطباعية” لم يكُن الجمهور اعتاد مواضيعها وأُسلوبها.
أَصل التسمية
أَما التسمية في ذاتها (“الانطباعية”)، فظهرَت للمرة الأُولى عند اليوم العاشر بعد الافتتاح، في مقال ساخر كتبه الصحافي لويس لُورْوَى عن لوحة كلود مونيه “شُرُوق الشمس” (رسمَها سنة 1872)، يهزأُ منه ومنها بأَنها “لوحة انطباعية ساذجة مسطَّحة لا عمق فيها”. ذلك أَنها كانت جامعةً اللون الدرّاقيّ فوق تموُّجات رمادية وزرقاء في مياه البحر عند أَوّل الصباح. وتكريمًا هذه اللوحةَ التي لها الفضل في تسمية “الانطباعية”، جعلَها “متحف أُورساي” في غرفة خاصة، ومعها رسوم أُخرى من مونيه بـ”الباستِل” لشروق الشمس وغروبها.
هكذا وُلدت “الانطباعية” قبل 150 سنة، ووضعَها معرض “متحف أُورساي” في مكانها التاريخي وإِطارها الفني، هي التي انطلقَت مغامرة مجهولة العواقب لمجموعة رسامين مغامرين طليعيين جريئين (عددهم 31)، عرضوا أَعمالًا لهم لم تكُن جميعها “انطباعية” في مواضيعها (بالمفهوم اللاحق للكلمة)، فبينهم من لم يكن بهذه الجرأَة في “اقتحام” المأْلوف لتغييره.
متقاربو العمر
اللافت أَن أُولئك “الشباب”، في معظمهم، كانوا متقاربي السن: بول سيزان وأَلفرد سيسلي وكلود مونيه وبِرت موريزو وأُوغست رنوار ولدوا في تاريخ بفارق سنتَين (بين 1939 و1841)، وكميل بيسارو سنة 1830 وإِدغار دوغا سنة 1834. ولم يكن يجمع بينهم تيار تشكيلي واحد، بل توقٌ واحد إِلى تصوير الحياة العصرية في زمانهم، وإِلى رفض هرمية التسلسل السائد، وإِلى التقاط الهنيهات الهاربة في المنظر، وإِلى إِدخال طريقة جديدة في الرسم بأُسلوب مختلف في استخدام الريشة السميكة والأَلوان الزاهية المتماوجة المتداخلة في بعضها البعض، وهو أُسلوب مهَّد الطريق لاحقًا لعدد من رسامي القرن العشرين وتيارات جديدة. وكان أُولئك الشباب تجمَّعوا (قبل 1874) وأَقاموا على حسابهم ما سمَّوه يومها “معرض المرفوضين” من معرض باريس 1863 الذي كان يضم أَعمال رسامين اتّباعيين تقليديين في ذاك العصر.
الحادي والتسعون
بهذا يكون “متحف أُورساي” في جناحَي معرضه (الفعلي والافتراضيّ الإِلكترونيّ) اقترب استعاديًّا من مناخ نيسان/أَبريل 1874. ونجح المتحف في جمع أَعمال من مختلف مجموعات خاصة في العالم، كي يستعيد القسم الأَكبر من لوحات 1874 في معرض كان الحادي والتسعين في سلسلة المعارض التي شهدتْها باريس.