(* سجعان قزي: إِليكَ في دورة غيابكَ الأُولى)
هاني أَعودُ إِليك..
أَعودُ، كأَنْ لم أَنْأَ عنكَ إِلَّا يومَ جنازتك (“أَزرار” 1269 – “النهار” 13 أَيار 2023)..
وهل تظُنني كنتُ يومها أَحتملُ أَن أَراكَ في نعشٍ، مُسجًّى ولا روح، ومُشيِّعُوك يحملونكَ في تابوت، أَنتَ الأَلِفْتُكَ نصفَ قرنٍ أَمامي صوتًا هادرًا بِحقيقة لبنانَ اللبناني، واعتدتُ عليكَ بعينَي صقْر ينقضُّ على كلِّ ما وكلِّ من، حين يَسوسُ لبنانَ مَن لا يستحقُّ الأَرزةَ على جبين ضميره؟
نعم: يومَها لم أَحتملْ أَن أَحضرَ مأْتَمَك.. كأَني لو حضَرتُه أَخونُ ما بيننا من حياة.. تغيَّبتُ ذاك النهار الفاجع.. بعدهُ عدتُ إٍليك، كي لا أُصدِّقَ أَنكَ نأَيتَ إِلى الهُناك، وأَن أَكونَ حارس غيابكَ بعدما كنتُ رفيقَ حضورك.. عدتُ إِليك، لأَظلَّ أُؤْمنُ كأَنْ ما زلتَ هنا، كأَنْ لم يتغيَّر إِيقاعُنا، كأَنْ مُكْمِلةٌ رِفْقَتُنا، كأَنْ باقٍ رنينُ صوتك، كما عادتُنا ذاتَ يرنُّ هاتفي وتكونُ أَنت، وتندَهُني فأُسابقُني إِليك، ونسهرُ عندكَ تحت ضوء القمر على شرفتكَ الـمُعْنِقةِ فوق خليج جونيه، مرةً بحضور دانياك، ومرَّاتٍ تُزقزق عيناكَ فتسـتأْذنُ، بكلِّ فرح الدنيا، كي تَجيبَ هتْفةَ زنبقتَيْكَ “جُوْي” و”أُود” من خلْف البحر..
ما أَصعبَ أَن أُصَدِّقَ يا سجعان، يا الحبيبُ الضالعُ بين النبضة والنبضة في نور الصداقة الأَقوى من أَيِّ شعاع..
ما أَصعبَ أَن أَفكِّرَ كيف لم تقترفْ وَرَمًا حتى يهاجمَكَ الخنزيرُ البريُّ بوَرَمٍ خبيثٍ يَصرع أَدونيسَك..
ما أَصعبَ أَن أَسمعَ من دانياك كيف واجهْتَ موتَكَ بعينَين مفتوحتَين ورُحت تُهندسُ لها كيف تريدُ مأْتمك..
لذا لن أُصدِّق، لأُريدَكَ بي حيًّا في ضوءِ عينيَّ، فأَجيئَكَ دائمًا بذاكرة بيضاء، وأَظلَّ أَنتظرُك خارجَ اللحظة، فالوقت لا وقتَ لديه لإِضاعة الوقت.. وهو الذي أَومأَ لي أَنكَ غادرتَ المكان كي تَسْكنَ الزمان.. وشرحَ لي أَنَّ المكانَ محدُودٌ مهما اتسعَت مطارحُه، وأَنكَ أَنتَ كسرتَ محدوديته لتحلِّق وسْع لامحدودية الزمان.. وأَوضح لي أَنَّ المكانَ ذريعةٌ للولادة بحفنة هذا التراب الذي نحملُه جسَدًا بضْعًا من سنوات ليسقُطَ بعدها في الغبار، ويدخلَ في الزمان مدًى لا تقيسُهُ سنوات، لأَن الغائبَ لحظتَئِذٍ يَسكن في البال، والبالُ خيالٌ شفَّاف لذاكرةٍ لا يحدُّها عُمْر ولا يحصُرها تفكير..
قال ليَ الوقت: للمكان ساعةُ الجدار وللزمان وَسَاعةُ الـمَدار.. وبين السَاعة والوَساعة: ما بين الحياة والموت من حضور وغياب، من تصَدُّع الساعة إِلى مدار الوساعة.. كأَنما الحضورُ في الْــهُنا صدًى مسبقٌ موقَّتٌ لصوت الغياب الدائم في الـهُناك.. هكذا أَنتَ: حين توقَّفَ فيكَ المكان توقَّفَتْ ساعة الجدار، فانطلقَتْ بكَ في الزمان ساعةُ الوقت الذي لا إِلى تَوَقُّف..
يا الحبيبُ الذي أَفلَتَ من سجْن المكان ليطيرَ في هيولى الـمَدار: في تقاليدنا، نحن الأَحياءَ الـمُوَقَّتين، حين نتمنى العمر الطويل لشبيهٍ بيننا مُوَقَّت، نقولَ له: “فَلْتَعِش ما تليقُ لكَ الحياة”.. أَما أَنا فسوف أَظلُّ حارسًا غيابَك الدائمَ الأَسطعَ من حضورٍ مُوَقَّت، وكلَّما اشتقتُ إِليكَ أُوافيكَ بتحيةٍ تشبهُكَ فأُناديك: “أَطال الوقتُ عمْرَ غيابِك”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com