أَولُ ما لَفَتَني، والطائرة تجثُم بي على أَرض وارسو، أَن أَلتفِت فأَرى على جبين المبنى الكبير اسم: “مطار شوبان الدولي”.. ها هي دولة بولونيا تُطْلق اسم مواطنها الموسيقي العبقري على أَكبر مطار فيها وأَحد أَكبر مطارات أُوروبا..
وأَولُ ما لفَتَني، لدى زيارتي يرفان، أَنَّ معهدها الموسيقي يحمل اسم “كونسرفاتوار كوميتاس”.. ها هي دولة أَرمينيا تُطْلق اسم رائد النهضة الموسيقية في تاريخها الحديث (غوميداس: 1869-1935) على معهدها الموسيقي الوطني العالي وفيه ستوديو أُوبرا كبير و4 صالات كونشرتو..
وأَولُ ما يَلْفت موسيقيًّا في فرنسا أَن الدولة سَمَّت “صالة بلايـيـل” Pleyel إِحدى أَكبر صالاتها الموسيقية (2036 مقعدًا) على اسم المؤلف الموسيقي إِينياس بلاييل (1757-1831)، ومصمِّم البيانو الحامل اسمه..
وأَولُ ما يَلْفت ثقافيًّا في أَلمانيا، أَنَّ الدولة أَطلقَت اسم شاعرها الخالد “غوته” (1749-1832) على مراكزها الثقافية في العالم (151 مركزًا في 98 بلدًا)..
وأَولُ ما يَلْفت ثقافيًّا في إِسبانيا، أَنَّ الدولة أَطلقَت اسم شاعرها الخالد “سرفانتس” (1547-1616) على مراكزها الثقافية في العالم (88 مركزًا في 45 بلدًا)..
وأَولُ ما يَلْفت ثقافيًا في فرنسا، أَنَّ الدولة أَطلقَت اسم كاتبها الخالد “مونتاني” Montaigne على معظم صالات مراكزها الثقافية في العالم..
وأَولُ ما يَلْفت عند اجتيازك البلدة الحدودية بين فرنسا وسويسرا أَنَّ اسمها “فيرنيه فولتير”.. ها هي دولة فرنسا أَطلَقت هذا الاسم تخليدًا للَّذي عاش فيها منذ 1759 وأَنتج فخلَّدها: الكاتب النهضوي فولتير (1694-1778)..
ولا تقصِّر دولة فرنسا في تخليد مبدعيها بإِطلاق أَسمائهم على مراكزَ فيها تحمل أَسماءَهم، فنجد مثلًا “مؤَسسة باستور” (لويس باستور: 1822-1895) و”مؤَسسة كوري” (ماري كوري: 1867-1934) و”برج إِيفل” (غوستاف إِيفل: 1832-1923).. وتطول اللائحة إِلى أُفق لامحدود من أَسماء مبدعين فرنسيين في الآداب والفنون والعلوم وكل حقل معرفيّ..
هكذا الدولُ الحضارية في العالم تَحفظ إِرثها بإِبقاء تراث أَعلامها حيًّا نابضًا في ذاكرة أَبنائها جيلًا بعد جيل، منائرَ هادياتٍ تُشكِّل هَيبةَ الوطن وحضارتَه لكل جيل.. وهكذا الدولةُ تخدم الوطن، حتى إِذا تغيَّرَت صيغةُ الدولة وتبدَّلَت أَسماء أَهل السُلطة فيها، بقيَ الوطن ثابتًا لامتغيَّرًا، رافلًا بخلود أَعلامه.. السُلطة إِذًا خادمةُ الدولة، والدولةُ خادمةُ الوطن..
أَعود من هذه الجولة العالَمية أَعلاه، وأَحُطُّ في لبنان لأَرى ما قامت به سُلْطته، جيلًا بعد جيل، لخدمة دولتِه، وما قامت به دولتُه، جيلًا بعد جيل، لخدمةِ لبنان الوطن، فأَرى أَنَّ معظم المبدعين اللبنانيين من حصة القطاع الخاص، لأَن الدولة مشغولة بشؤُونها – والثقافة نادرًا جدًّا ما تكون من هذه الشؤُون -، وأَرى السُلطة تتخبط في تفاهات عابرة زائلة كمعظم رجالها العابرين الزائلين..
وفيما لم يحظَ الأَخوان رحباني من الدولة إِلَّا بشارعٍ ضئيلٍ في بلدتهما أَنطلياس، وبصالةٍ مُشَرِّفةٍ في حرَم الحركة الثقافية أَنطلياس (إِذًا: قطاع خاص)، لا نلاحظ اهتمامًا رسميًا بالمبدعين اللبنانيين، فيما يتولَّى ذلك أَبناؤُهم أَو متطوِّعو القطاع الخاص.. وأَحدث ما جرى: إِنشاء “أَكاديميَا الياس الرحباني” في حرَم جامعة البلَمَند، ببادرة من بِكْره غسان الذي أَسَّس حتى اليوم ثلاثةَ فُروعٍ بِاسم “أَكاديميَا الياس الرحباني” في ضبيِّه والسوديكو وطرابلس، منشئًا في أَربعَتِها الفروعِ صفوفَ كونسرفاتوار لتدريس الموسيقى في قطاعاتها وآلاتها المختلفة..
هكذا يكون تخليدُ المبدعين، بإِنشاء مؤَسسات دائمة تحمل أَسماءَهم، وليس الاكتفاء بشارع على اسمهم في ناحية من بلدة أَو مدينة، أَو بتمثال لهم في زاوية منسية..
وكما بادر غسان الرحباني إِلى الوفاء للحبيب الياس بسُطُوع اسمه على كونسرفاتوار ناشط، يَجمُل بالمعنيين في القطاع الخاص ذاته المبادرة إِلى تنْصيع أَسماء مبدعينا الذين خلَّدوا لنا وطنًا حضاريًّا أَسْوأُ ما فيه دولتُه الأُمِّيَّةُ وسُلطَتُهُ العقيمة.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com