أُغادر المشهد اليومي الراعب المقفَل على المجهول، لأَدخُلَ فضاء الشعر المفتوح على المعلوم.
وصلَني هذا الأُسبوع كتابُ “الحقل الروائي من ديوان شبلي ملَّاط”، وأَقلَقَني قبل قراءته خطرُ النثر والسرد والتوصيف في مطوَّلات شعرية يغلُب عادةً فيها النظْمُ على الشعر، والحشوُ على اللقيَّات الشعرية التي هي هي الشعرُ في جوهره الأَعمق.
أَفتحُهُ فإِذاني أَمام رواياتٍ كاملةٍ منظومةٍ شعرًا عموديًّا،في أَغلبها ذات قافيةٍ واحدة أَو خماسيات أَو مقاطع مختلفة القوافي في كل مقطع، ومعظمُها يزيد عن مئة بيت.. فكيف يتلافى الشاعر أَفخاخ الحشو والتطويل وما يرافقهما من وُقُوع الشاعر في النثرية؟
لدى قراءتي قصائدَ الكتاب الاثْنَتَي عشْرةَ وختامُها مسرحيةٌ شعرية، بلَغَتْني شاعريةُ شبلي ملَّاط (1875-1961) علَم عصره في النصف الأَول من القرن العشرين.. وكنتُ حفظْتُ معظمَ قصائده في مناسبات أَدبية كان يُنْتَدَبُ إِليها بِاسم شعراء لبنان.
وأَحسنَ واضعُ المقدمة: حفيدُهُ الدكتور هيام ملَّاط، في نشْره ثلاثَ مخطوطاتٍ من قصائد الكتاب، ليتبيَّن أَن الشاعر نادرًا ما يَشْطب كلمةً أَو عبارةً أَو بيتًا، فيكتبُ القصيدة كما مَـمْليَّةً عليه منسكبةً جاهزةً بأَبياتها وقوافيها وحواراتها وشخصياتها وتَسلسُل أَحداثها، في سلاسة طبيعية تُؤِكِّد شاعرية “شاعر الأَرز” بتَمَكُّنها الوطيد بين شعراء جيله.
في غياب الإِعلام فترتئذٍ، كانت قصائدُ الملَّاط في صحافة عصره حديثَ معاصريه وتقديرَ أَعلامهم.. فهذا تلميذه (في “الحكمة”) مارون عبود: “في ذلك الزمان، كان الأُستاذ شبلي ملَّاط سيِّد الموقف، بيروتُ كلُّها تنوِّه به.. وقصيدته القصصية “الجمال والكبرياء” كانت آيةَ زمانها بل الزاويةَ الأُولى في تطوُّر الشعر الحديث.. وكان الملَّاط مَثَلَ الشعراء الأَعلى، ولأَجلها لَـقَّبُوه “الشاعر العصري” لخروجه على القديم وافتتانًا بجديده الرائع”.. وهوذا الياس أَبو شبكة: “ليس أَشدَّ من قوة الشاعر حين يُطلق آهاتِهِ الثائرةَ أُغنياتٍ سماويةً تحلِّق في الفضاء فتدخل الأَكواخ والأَديار والقصور.. وقصيدةُ “الوردة الذابلة” للشاعر الكبير شبلي بك ملَّاط هي دمعةُ وحيٍ تترقرق في عين الشاعر وتنسكب على ثغر الحياة المتأَلِّمة”.
تلك كانت هيبةَ “شاعر الأَرز” في حقبة ازدهار الشعر عالَمًا هو الأَعلى تداوُلًا في زمانه، لَمَع فيها الملَّاط علَمًا في قلب ذاك العَالَم، وسْط مسرحيات شعرية عصرئذٍ من أَحمد شوقي، أَو قصائد قصصية من خليل مطران (“نيرون”) والأَخطل الصغير (“المسلول”)، لتبرزَ قصائد الملَّاط حاملةً ريادة لبنان الشاعر، كما دومًا، في معظم الأَغراض الشعرية.. ذلك كان حضور شبلي ملَّاط في قصصه الشعرية (“الجمال والكبرياء”، “الوردة الذابلة”، “بين العرس والرمس”، …) أَو قصائده التاريخية العربية: “أُمُّ البنين” (1912)، “خولة بنت الأَزْوَر” (1915)، “شيرين الفارسية” (1917)، “سيف بن ذي يزن” (1921)، “ملكة تدمر” (1931)، “عذراء بانياس” (1935)، أَو “يهوديت” (مسرحيته الشعرية من ثلاثة فصول – 1931).. هنا نحن أَمام قامة شعرية ساطعة في عصرها، أَيامَ كان المنبر يردِّدُ صوت الملَّاط ينهمر بقصائده في إِلقاء فريد يتماوج بين جمهوره فَيَطْرَبُ ويُطْرِب.
هذا الكتاب (208 صفحات حجمًا كبيرًا بتفسير د. جوزف شهدا بعضَ كلمات القصائد) مرجع في مكتبتنا الشعرية اللبنانية، ومرآةٌ نقيةٌ لِحقبة شعرية كان لبنان فيها، على عادته، رائدًا سبَّاقًا طليعيًّا كما بقصائد شبلي ملَّاط الذي أَنصفَه سعيد عقل حين خاطبَه في مهرجان “شاعر الأَرز” (قصر الأُونسكو – 1961):
أَخذتُها عنكَ: أَهلي النورُ منبتُهُم..عالُون كالأَرز جارِ الله ما رُغِمُوا
ما نكَّسُوا هامةً إِلَّا لخالقها..إِلَّا للُبنان ما دانوا وما احتكمُوا
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com