في الجزء الأَول (السبت الماضي) من هذه الثلاثية ورَدَ ذكْرُ لبنان في سبعة فصول من كتاب “يسوع ابن الإِنسان”.. هنا لبنانُ في عشَرةٍ أُخرى من فصول الكتاب.
لا يكتفي جبران بالإِيحاء بل يُسمِّي مباشرةً فصلَه: “راعٍ في جنوب لبنان” ويجعلُه يقول: “أَوَّل ما رأَيتُهُ، الصيفَ الماضي، كان يمشي مع ثلاثة رجال هناكَ على هذا الطريق… ومع الربيع عاد يسوع مجدَّدًا إِلى هذه الناحية، وكان وحدَه هذه المرَّة”.
في فصل “يوسف الرامي” يقول جبران بلسان يوسف: “عند بحيرة طبريَّة في الجليل، غنَّت الملائكةُ على مسامعنا، وسأَلَتْنا أَن نغادرَ الأَرض الـمُجدِبة إِلى حديقة رغباتِ القلب… وراح يسوع يحدِّثنا عن حقولٍ خصيبةٍ هناك ومراعٍ خضراء، عن منحدرات لبنان حيثُ الزنابقُ البيضُ تحايدُ القوافلَ العابرةَ في وُحُول الوادي”.
وفي فصل “نثنائيل” يتذكَّر هذا الأَخير: “يقولون إِنَّ يسوع كان متواضعًا ومُهادنًا… لكنني أَقول إِنه كان ذا سُلطةٍ على البشر، وكان يعرف حقيقةَ قُوَّته، ويُعلنُها بين تلال الجليل وفي مدائن اليهودية وفينيقيا”.
وكتَب جبران بلسان صالومه في فصل “صالومه تخاطبُ صديقتَها”: “أَحبَبْتُهُ، وإِخالُه سيغفِر لي تَسَبُّبي بقطْع رأْس صديقِه يوحنا.. بدا لي مَشيقًا كالحَور، هادئًا كالبحيرات في حضْن التلال وكالثلج على قمَم لبنان، وتشَوَّقْتُ لَو أُبَــرِّدُ شَفَتيَّ في ثنايا ثوبه”.
وها فصل “الشاعر الإِغريقي رومانوس” الذي يروي: “كان يسوعُ شاعرًا… يرى عن عيوننا، ويسمعُ عن آذاننا، وعلى شفتيه راحت تَدرُجُ كلماتُنا الحافية… وغالبًا ما رأَيتُهُ ينحني حتى يلامسَ أَوراقَ العشب وسمعتُه في قلبي يقولُ لها: “أَيتها الكائنات الصغيرةُ الخضراء، ستكونين معي في مملكتي، كما معي ستكون سندياناتُ بيسان وأَرزات لبنان”.
ويكتب جبران فصل “لاوي التلميذ” ولا يغفُل عن لبنان. ها هو لاوي يَشْهد: “كان في بيتي كَتَبَةٌ ورجالُ علْم، فقال له أَحدُهُم: “سمعتُ أَنكَ تدافع عن النساء الزواني في أُورشليم”، فلمحتُ على محيَّا يسوع ما كأَنها جبالُ لبنانَ الصخريةُ وأَجاب: “صحيح. وفي يوم الدينونة سَيَقِفْنَ أَمام عرش أَبي فيَطهُرن بدموعهنَّ، وأَنتم ستُوثَقون بأَغلال أَحكامكُم”.
وفي فصل “يوسف الرامي بعد عشْر سنوات” يقولُ جبران بلسانه: “كان في قلْب يسوع جَدوَلان: نسَبُه مع أَبيه السماوي، وشغَفُه بالعالَـم العُلْوي، وكنت أَسمعُ انسيابَهما معًا في صمتي… زُرتُه قبل يومٍ واحدٍ من أَمْر بيلاطس باعتقاله… مرَّ زَمَنٌ على ذلك، لكنَّ أَرزتَنا التي سقطَت يومها، ما زال أَرجُها نابضًا، وينتشرُ في جهات الكوكب الأَربع”.
ولا تضيق المسافاتُ بجبران فيتناول شهادةَ مَن سمَّاه “جرجس من بيروت” وفيها: “كان يُحادث أَصدقاءَه هنا في غابة الصنوبر خلْف سياج بيتي.. وقفتُ إِلى السياج أُصغي، لأَنني كنت أَعرفُ مَن هو، فَشُهْرَتُه كانت بَلَغَت شواطينا قبل أَن يزورَها”.
وها هو “التاجر بَرقا من صُوْر” يقول: “كان يسوعُ قلبَ الإِنسان.. قطعتُ بمراكبي السبعةَ البحار، وتاجرتُ مع ملوك وأُمراء ومحتالين في ساحات المدُن البعيدة، ولَم أَرَ مَن يَفهم التُجَّارَ مثله… لم يكن تاجرًا لكنه أَدركَ سرَّ التجارة”.
و”فوميَّة رئيسةُ كاهنات صيدا”، في الفصل الخاص بها، تُخاطِب أَخَواتِها الكاهنات: “تناوَلْنَ قيثاراتِكُنَّ لأُغنِّي… أُنقُرنَ أَوتارها فأَتغنَّى بالمقْدام الذي صرَعَ وحش الوادي وراح يتأَمَّلُه بشفَقَة… غَنِّين معي هذا الذي قبَّل شحوبَ شفَتَي الموت وهو الآن يرتعشُ في فَم الحياة، ثم أَرِحنَ قيثاراتِكُنَّ وتحلَّقْن حولي فأُردِّد لكُنَّ كلماتِهِ وأُخبركُنَّ عن أَعماله، لأَنَّ صدى صوته أَعمقُ من شَغَفنا”.
(السبت المقبل: الجزء الثالث الأَخير)
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com