مش وقتها هلَّق؟
بلى: بل وقتُها أَكثر من أَيِّ وقت.. ما يجري في “غَـزَّة” الشهيدة يُدمي الضمائر الحيَّة في كل العالَم.. لكنَّ قدَر الشهادة أَن تتمَّ حتى تكون القيامة، وهي آتيةٌ لشعب فلسطين ومقاومتِه الهرقلية عدوًّا وحشًا اغتصب منه أَرضه أَمام صمْتٍ دُوَليٍّ وَغْد، لكنه مهما غالى في تَوحُّشه سينهار أَمام عناد الفلسطينيين التاريخي بصمودهم والتشبُّث بأَرضهم، وسوف تعود الأَرض إِلى أَبنائها.. ولعلَّ “طوفان الأَقصى” زَخَّةٌ أُولى من “طوفانات” آتية.
بلى: هلَّق وقتها مع هذا الأُسبوع الأَول من العام الثاني للشغور، كما نبَّهت “النهار” بصفعة على ضمائر السياسيين (“في ذكرى الفراغ: رئاسة منسية أَمام طوارئ الحرب” (مانشيت “نهار” الأَربعاء أَوَّل هذا الشهر).. الحاجة اليوم إِلى رأْسٍ للبلاد أَولويةٌ بعد سنة الشغُور وما تخلَّلها، لأَن الرأْس يَضبط الإِيقاع فتنتظِم سائرُ تردُّداته.. لكنَّ الـمُلحَّ أَكثر: أَلَّا يكونَ لنا رئيسٌ أَيَّما رئيس، بل أَن يكون آتيًا من الغد لا من أَيِّ ماضٍ ولا من أَيِّ فريق: رئيسٌ يكون حالِـمَ لبنان الوطن، حاكِمَ لبنان الدولة، وحكيم لبنان السُلطة.
رئيسٌ لا يكون عهدُه استمرارًا لأَي عهدٍ سبَق بعد كل ما ورثنا في العهود السابقة من تدخُّلات سياسية ومداخلَ فئوية ومداخلات تجاذبية تؤَخِّر تشكيل الحكومة، وتعرقل مسيرة النهوض من قعر الهاوية إِلى بداية الفجر المرتجاة.
رئيسٌ يعرف أَنْ لا خيار له في نواب الأُمة الذين انتخبهم الشعب (بكل ما في عملية الاقتراع من انسياقٍ صاغرٍ أَغناميًّا وببغائيًّا) لكنَّ له قدرةَ التشاوُر مع رئيس حكومته في اختيار وزراء أَكفياء حياديين ليسوا حُبُوبًا في مسبحة أَسيادهم السياسيين، ولا دأْبَ لهم إِلَّا في العمل على خدمة البلاد، كلِّ البلاد، وجميع المواطنين.
رئيسٌ يشكِّل فور انتخابه مجلسًا استشاريًّا من نخبة اختصاصيين في جميع الدُرَب والمعارف والاختصاصات، يجتمع بهم دوريًا (تمامًا كاجتماعات مجلس الوزراء الأُسبوعية) ويطَّلع منهم على تقارير ما يجري واقتراحات ما يجب أَن يجري، فيُرسلُ التقارير إِلى مَن ينفِّذ مضمونها، والاقتراحات إِلى مَن يُفعِّلُها، وغالبًا هذه وتلك تكون من عمل المديرين العامين الذي يُديرون شؤُون الوزارات والمؤَسسات العامة بمنطق الإِنماء المتوازن سواسيةً في جميع المناطق.
رئيسٌ يضع من أَول عهده بيان الأَولويات التي تحتاجها البلاد، ويعمل على تنفيذها تباعًا كي ينزعَ عن عهده سماتٍ بشعةً سابقةً أَيامَ كانت تَحكُمُ الدولةَ عقليةُ المزرعة أَو القبيلة أَو العشيرة، فسبَّبت خسارتَنا ثقةَ الدُوَل واحترامَها.
رئيسٌ يكون يعرف لبنان تاريخًا عريقًا وتراثًا عميقًا وحضارةً سحيقة وأَعلامًا خالدين، ويعي أَنه يحكم بلدًا ضئيل الجغرافيا، قليل الديموغرافيا، لكنه جليل الإِبداعوغرافيا في كل حقل بفضْل أَبناء له عباقرة على أَرضه، ومنتشرين في العالَم يُمكنه أَن يَندَهَهُم فيعودوا لينهضوا بوطنهم حين يثقون بأَن رئيسه ليس نسخة مكرَّرة عن رؤَساء تدهورَت في عهدهم الدولةُ لفَشَلِهم في حُكْم السُلطة.
رئيسٌ يُبعدُ عنه “الفروماجيست”: تعبير الرئيس الـمِثَال فؤاَد شهاب الذي أَنشأَ دولةَ مؤَسساتٍ سلَّمها لأَكفياء مَنَعَهُم من الردِّ على مراجعات السياسيين وبنى لبنانًا بلَغ أَن يكون سنة 1963 بين أَكثر البلدان ازدهارًا في العالم، ولبنانُ مَنجمُ مواهبَ فريدة.
هوذا الرئيسُ الذي ننتظره بعد نيرانٍ جحيميةٍ تنْهَشنا من كل صوب، فنَثِقُ بأَنه يُنقذُنا لا بما هو ومَن هو وحسْب (فهو ليس مُلِمًّا بكل دُربة) بل بتعاونه مع فريق لبنانيين نخبويين، هُنا وفي العالَم، يُشكِّل معهم هيكلية السُلطة فتنمو الدولة ويزدهر الوطن.
طوباويٌّ هذا الكلام؟ أَبدًا.. فإِمَّا رئيسٌ عتيدٌ من هذا المستوى الاستثنائي العالي، أَو رئيسٌ من فصيلة الموجود فيستمرُّ لبنان في سقوطٍ يجعلنا منبوذين على أَرصفة الدول، وفاشلين بين مساخر العالم.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com