لافتًا كان ما زوَّدَني به من باريس الصديق عبدالله نعمان إِثْرَ زيارته البلدةَ الفرنسيةَ الصغيرةَ Auvers-sur-Oise وهي باتت مَعْلَمًا ثقافيًّا مقصودًا بعدما عاش فيها فان غوخ ما سوى 70 يومًا وفيها تُوُفِّـيَ ودُفِن (“أَزرار” الأُسبوع الماضي رقم 1280).. استزدتُ من عبدالله -وهو منذ نصفِ قرنٍ شَبيهي في العمل الثقافي من أَجل لبنان- فزوَّدَني بما يلفت في فرنسا تكريمها المبدعين الذي نسَجوا مجد فرنسا الثقافة والإِبداع فَرَدَّت لهم الوفاء.
من ذاك أَنَّ في فرنسا اليوم نحو 35 أَلف بلدية، صدَف أَن تَغَيَّر اسمُ بعضِها رسميًّا أَو أُضيف إِليه اسمُ مبدعٍ ذي علاقة بها.
فهذه بلدية ريشُلْيُو تحمل اسمَ الكاردينال مؤَسس”الأَكاديميا الفرنسية” (1634).. وهذه بلدية ميلِّي/لامرتين تحمل اسمَ الشاعر الذي وُلِدَ فيها.. وهذه بلدية “بونفار” تُغَيِّر اسمَها إِلى “سان ميشال دو مونتانْي” على اسم العبقري الذي فيها وُلِدَ ومات.. وبلدية فيرنيه أَضافت إِلى اسمِها اسمَ فولتير تكريمًا إِياه بعد وفاته لأَنه سَكَنَ فيها وشَهَرَها.. وبلدية “لاهاي” غيَّرت اسمَها إِلى “ديكارت” تَيَمُّنًا بالفيلسوف الذي وُلد فيها.. وبلدية شيلِّي أَضافت إِلى اسمِها اسمَ مازاران الكاردينال الإِيطالي الأَصل الذي كان الرجل القويَّ على عهد الملِكَين لويس الثالث عشر والرابع عشر.. وبلدية شامبانْـيْ أَضافت إِلى اسمِها اسمَ الشاعر أَلفرد دو فينيي لأَنه سكنَ فيها.. وبلدية كارلا أَضافت إِلى اسمِها اسمَ الفيلسوف بيار بايل لأَنه ولد فيها.. وفي ضاحية باريس، على ضفَّة السين اليُمنى، سهلٌ وسيع كان فارغًا أَجردَ عند ناحية تسمى “كليشي” فبات منذ 1867 مدينةً مزدهرة بفضل مُؤَسِّسَيْها تاجر الخمر (نيكولا لوفالْوَى) والمقاول البنَّاء (جان جاك بيرِّيه) فحمَلت المدينة اسمَيهما معًا “لوفالْوَى بيرِّيه”.. والواحة الرئيسَة في قلب باريس: “ساحة النجمة”، وهي سجَّلَت انتصارات نابوليون ومنها يتفرَّع 12 شارعًا مديدًا وجادة طويلة وتُنافس في شعبيتها عالَميَّةَ برج إِيفل، غداةَ وفاة الرئيس الجنرل ديغول سنة 1970 انعقدَ مجلس بلدية باريس في اجتماع طارئ وقرَّر أَعضاؤُهُ بالإِجماع إِضافةَ اسمِ الرئيس إِلى اسمها فباتت من يومها “ساحة شارل ديغول – النجمة”.
طبعًا لا ينتهي التعداد عند الكتابة عن أَعلامٍ في القطاعات المعرفية والإِبداعية المختلفة، حين بلدةٌ وُلدوا فيها أَو ماتوا أَو عاشوا ردحًا من حياتهم فيها، تُخلِّدهم بنُصُب أَو تمثال أَو ساحة أَو شارع…
في هذا الأَعلاه ذكرتُ فرنسا، لكنها ليست وحيدة في هذا النوع من الاستذكار والتكريم والتخليد.. تحضرني هنا مدينة فايمار الأَلمانية التي تزهو في ساحتها الكبرى بتمثال كبير مشتَرَك للشاعرَيْن غوته وشيلر لأَنهما عاشا فترة من حياتهما فيها.
البادرة إِذًا تتَّخذها بلديةٌ ثقيفةٌ تَعرف كيف تُخلِّد مبدعين فيها كانوا خلَّدوها في تراثهم أَو إِرثهم أَو سيرتهم فتَعْمَد إِلى استذكارهم بما يبقى شاهدًا ماثلًا في ساحتها أَمام جيلهم وخصوصًا… خصوصًا أَمام الجيل التالي وكلِّ جيل جديد يليه، كي تظلَّ الذاكرةُ نابضةً تستقي من هؤُلاء المبدعين الكبار دروسًا ونماذجَ وأَمثلةً عمَّن يعمل لوطنِهِ فيبادلُه وطنُهُ بتكريمه كما يليق.
وما دامت البلدية هي السلطة الإِدارية المحلية، فهي أَدرى بمَن وُلِدَ في نطاقها البلدي أَو توفي فيه أَو عاش فيه فترةً فأَنتَجَ وغادَرَ ليبقى نتاجُه، ببادرتها، نابضًا في ذاكرة المستقبل.
هنا الأَساس: السُلطة المحلية.. ولا قيمة مستقبلية لها إِذا اقتصرَتْ فقط على العمل التشغيلي أَو على الاهتمام بما سوى البُنية التحتية والاجتماعية والبيئية و”الانبهار” بسياسيين منها أَو فيها وجميعهُم مُوَقَّتون وإِلى زوال، إِن لم تُصافح البلدية يدَ مستقبلها ومستقبل أَبنائها باستذكار خالدين هُم الذين صنعوا مجدَها وينصِّعون اسمَها في تاريخ الوطن.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com