بين 1758 و1778 عشرون سنةً سكن خلالها فولتير (1694-1778) قرية فرنسية حدودية مع سويسرا (قرب جنيف) كانت تُدعى فيرنيه Ferney، ترك فيه أَثره البالغ فخلَّدتها فرنسا بعد وفاته بأَن سمَّتها باسمه “فيرنيه فولتير” لأَنها لولاه لبقيَت قرية زراعية عادية.
بين20 أَيار و29تموز1890 سبعون يومًا سكن خلالها الرسام الهولندي فنسنت فان غوخ (1853-1890) القرية الفرنسية أُوفير سُورواز Auvers-sur-oiseترك فيها أَثره البالغ فخلَّدتها فرنسا بعد وفاته بأَن حوَّلتها مَعْلَمًا سياحيًا ثقافيًّا لأَنها لولاه لبقيَت قرية عادية.
بعد كثير ما كنتُ كتبتُ عنها وعن فان غوخ في “النهار” و”النهار العربي”، رأَيتُ إِضافاتٍ لها في صوت صديقي الكاتب اللبناني عبدالله نعمان وزوجته المحامية هناء الصمَدي إِبان زيارتهما إِياها الأُسبوع الماضي. منها أَن الدولة، تشجيعًا زيارةَ القرية، كرَّسَت كلَّ نهاية أُسبوع رحلة خاصة بالقطار (سمته “قطار الانطباعيين”) تنطلق من محطة الشمال في باريس مباشرة (44 دقيقة) بدون توقُّف إِلى محطة أُوفير سُورواز على خمس دقائق سيرًا عن وسَط القرية التاريخي.
ومع أَن انطباعيين آخرين (بول سيزان، كميل بيسارُّو، فرنسوا دوبينيي) رسموا مناظر من القرية، طغى فيها أَثر فان غوخ فجعلَت الدولة “نزل رافو” Ravoux (حيث سكن فان غوخ) على لائحة تراثها الوطني. كان اسمُه “مقهى البلدية” فبات اسمه اليوم “بيت فان غوخ” مقصدَ الزوار والسياح: في الطبقة الأَرضية مطعم مليْءٌ بلوحات فان غوخ، وفي الطبقة العليا غرفتُه الضيقة (رقم 5) من 7 أَمتار مربعة عند رأْس الدرج الضيق، عاش فيها 70 يومًا وعلى سريره فيها انطفأَ بعد يومين من إِطلاقه النار على صدره.
من مكتب السياحة يقتني السياح خارطة مفصلة للقرية، فيها الطريق الْكان يمشيها فان غوخ غيرَ مبتعدٍ عن النزل أَكثر من كيلومتر واحد. تبلغ تعرُّجات الطريق نحو 9 كيلومترات، ومع كل تفصيل عند كل نقطة أَو منعطف أَو مشهد رسمه فان غوخ يجد السائح نسخة عن لوحة رسمها في تلك النقطة بالذات، حتى ليشعر أَن فان غوخ يمشي معه خطوةً خطوة، لوحةً لوحة، منظرًا منظرًا، فيما يشاهد المنظر حين رسمه فان غوخ. وحيثما يتجول السائح يحس بشعور نوستالجيّ فريد أَنه يطأُ أَرضًا مشى عليها فان غوخ حاملًا قماشته وأَلوانه، جادًّا في السير حتى يستوقفه منظر أَو ملمح فيتوقَّف ليرسمه.
لوحات فان غوخ تملأُ القرية: على علبة البريد أَمام كل بيت، على جدران البيوت، على الملصقات، على الأَكواب، على الحقائب الصغيرة، على الأَقلام، على المناديل، على القمصان، على الأَقداح والكبايات، على الطنافس، عدا كتب عنه في المكتبة تبلغ العشرات..
إِنه في كل مكان، في النزل، في الساحة، في الشوارع الضيقة. وعند طرف القرية يستريح في الهدوء ضريحان: ضريح فنسنت وضريح شقيقه تيو (مات بعده ببضعة أَشهر)، تمتدُّ فوقهما أَغصان اللبلاب كما يدان تمتدَّان فوقهما لتجمعاهما معًا في الموت كما كانا معًا في الحياة.
بلى: 70 يومًا فقط، 80 لوحة فقط و64 رسمًا، وانطبعت القرية في التاريخ على اسم مستوحدٍ رسم فيها وترك اسمه ساطعًا حتى اليوم… خلَّدها بلوحاته فخلَّدَت اسمه على كل عطفة فيها تستقطب آلاف السيَّاح كل عام.
هكذا تكون السياحة الثقافية: بتخليد أَعلام الوطن وإِحياء أَماكنهم، لا اكتفاءً بهيصة المطاعم ولا بفولكلور المهاجرين العائدين موسمًا صيفيًّا يتيمًا ثم يغادرون، ولا بشعارات سياحية على الطرقات والنواصي تختفي ساقطةً بغبائها بعد انتهاء الموسم.
وحدها السياحة الثقافية تُرَقّي بأَعلامها البلاد معالِم بأَسمائهم: خلَّدوها فتُخلِّدهم، ولا تعود بشري من دون جبران، ولا الفريكة من دون الريحاني، ولا بسكنتا من دون نعيمة، ولا أنطلياس من دون عاصي ومنصور، ولا زوق مكايل من دون الياس أَبو شبكة، ولا عين كفاع من دون أَبو محمد مارون عبود.
لكنَّ كلَّ هذا الأَعلاه يحتاج حُكْمًا غير أُميٍّ يعرف أَن خلود الوطن يكون بتكريس مبدعيه الخالدين في الزمان لا أَصنام سياسييه الزائلين فُقَاعاتٍ كالزبد الزائل على رمال الشطآن.
هنري زغيب
email@henrizoghaib.com