مرارًا مررتُ به ولم أَتنبَّه له. كان يأْخذُني، عن يمين ذاك المنعطَف من بلدة عينطورة الكسروانية، معهدُ مار يوسف الشهير، فأَتخيَّل بوَّابتَه الكبرى يخرج منها تلميذٌ حاملٌ حقيبتَه القماشية، فيها كُتُبُه وفيها أَجيجٌ من ثورته الباكرة… تلميذٌ اسمه الياس أَبو شبكة. وما كنتُ أَرى عن يسار بوَّابة المعهد ديرًا سينفتح لي فيه فضاءٌ من الثقافة والروحانيات: ديرُ “سيِّدة الزيارة”، حتى تَـمَّت لي زيارتُه قبل أَيام.
“فيلُوكاليَّا”! لم أَكُن أَعرف هذا الاسم حتى شَرَحَتْه لي تلك التي وراءَ إِعادته إِلى الحياة نابضًا بقُدسية الرسالة: الراهبة مارانا سعد، “الأُخت الـمُكرَّسة” كما سمَّاها البطريرك الراعي نهار تدشين الدير الـمُرمَّم (الجمعة 18 حزيران 2021).
أَخذَتْني الــ”مارانا” تجوالًا في أَنحاء الدير فإِذا أَنحاؤُه هَيبةُ ماضٍ ورَهبةُ صلاة. وراحت تشرح: “تأَسس هذا الدير سنة 1744 بهمَّة وُجَهاء من آل الخازن. وفي هذا المبنى الجانبي أَمامكَ تأَسَّسَت سنة 1863 أَولُ مدرسة للفتيات في المنطقة، وفيها درسَت مي زيادة في مطلع صباها (1900-1903) وفيها كتبَت نصوصَها الأَدبية الباكرة”.
نَجُول أَكثر، والراهبة يَجُول شرحها: “بقي الدير مهجورًا لعقودٍ قاحلةٍ طويلة، حتى تَم ترميمه بهبة سخية من الحكومة الهنغارية سنة 2019″، وأَكملَتْ في دَعَة البنفسج: “هنا أَسَّسنا فيلُوكاليَّا معهدًا وجوقةً وجمعيَّة”.
وما الـ”فيلُوكاليَّا”؟ تشرحُها لي الأُخت مارانا وعلى سيمائها مسحةُ زنبقٍ وإِيمان: “كلمة يونانية معناها حبُّ الجمال” تقول لي. وتكملُ خاشعةً: “الجمالُ هو حبُّ الله، واللهُ هو حبُّ الجمال”.
نَجُول بعد، فإِذا في نشاط “جمعية فيلوكاليَّا” (أَسَّسَتْها “مارانا” سنة 2019) معهدٌ يضمُّ فنانين محترفين في الفن المقدَّس والموسيقى والرسم والنحت والفن الحرفي وفن الطبخ والفنون البصرية، رسالتُهُ “إِبرازُ الفن في جميع أَبعاده، وتشجيعُ الشباب اللبناني على الإِنتاج الفني والثقافي، وتنظيمُ وُرَش عمل ومعارضَ ومنتديات فنية وفكرية وبرامج فنية للأَطفال، وكلُّ ذلك كي يكونَ الفنُّ حقًّا مكتسَبًا لكل إِنسان”.
بعد “الجمعية” بسنة واحدة (2020) نجحَت “الأُخت الـمُكرَّسة” في تأْسيس “معهد فيلُوكاليَّا” بأَربعة اختصاصات: قسْم الموسيقى (أَربعة فُروع: الآلات الموسيقية، التنشئَة الموسيقية، الصوت، الموسيقى المقدَّسة)، قسْم الفن الحرفي (دوراتٌ ووُرَشُ عمل في التطريز والحياكة والمجوهرات وصناعة السلال، والفسيفساء، والزجاج المنفوخ، وصناعة الفخَّار والخزف والنحاس)، قسْم فن الطبخ (برامج تنشئَة للهُواة والاختصاصيين، دورات متخصصة وخدمات التموين)، قسْم الثقافة والدين (تربية الناشئة على النمو الشخصي والثقافي والحوار وتقدير المعتقدات والثقافات في مجتمعنا).
ومن “الجمعية” إِلى “المعهد” إِلى “الجوقة”: أَسسَتْها الـ”مارانا” سنة 2010 باسم “جوقة معهد القديسة رفقا” حتى 2018 حين أَسْمَتْها “جوقة فيلُوكاليَّا” سرعان ما أَصبحَت من أَبرز الجوقات اللبنانية. في ذاكرتها خلال 12 سنة أُمسياتٌ في لبنان وقبرص وفرنسا والأُمم المتحدة وأَلْمانيا وإِيطاليا وبولندا، وعددٌ كبير من الأُسطوانات الحاملة أَصوات منشداتها ومنشديها، ومشاركاتٌ في أَفلام وبرامج تلفزيونية.
تتعب الـ”مارانا” من الشرح؟ أَبدًا. تتحمَّس أَكثر: “رسالتُنا تحفيزُ الشباب للمحافظة على أَرضهم، والمبادرةُ في الفنون، لكسب الخبرة والمهنية وتمكين الروابط بين أَبناء الوطن، فتكون فيلُوكاليَّا من خلال الفنون رسالةَ جمالٍ بين يَدَيّ الله”.
في الناس مَن تَهبُهم الحياة دينامية استثنائية يستثمرونها في أَعمال تتَّسع حتى تخدُمَ مجتمعًا بكامله في شتى عناصره البنَّاءة، لكنَّ تلك الدينامية تكون قصرًا على استثنائيين واستثنائيات.
من ثمار هذا الاستثناء : بعد جولةٍ كأَنْ من خارج الـ”هُنا” خرجتُ من زيارة “دير سيدة الزيارة” ذي النكهة الروحانية إِلى العالم اليومي ذي الأَرضيات، وأَنا أَسمع في بالي خيالاتِ “جمعية” و”معهد” و”جوقة”، وراءَها جميعها راهبةٌ استثنائية.
“مارانا” اسمُها… الأُخت “مارانا”.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com