قد لا تكون المئوياتُ ضرورةً نوستالجيَّةً للذكرى لكنها، تقليديًّا، مَدعاةٌ للتذكار في محطاتٍ من الزمن يوبيليةٍ بين فضيّ وذهبيّ وماسيّ ومئَويّ. وللبنان من اليوبيلات هذه السنة 2023 ثلاث مئويات:
- نزار قباني (21 آذار 1923): قد يكون نزار، بين شعراء كثيرين غير لبنانيين، أَقربَ مَن “عاش” لبنان وكتب عنه وعن بيروته قصائد حُب لا تقلُّ ولَعًا عن قصائده في الغَزَل. فمنذ طلَّق الحياة الدبلوماسية وعاد من إِسبانيا سنة 1966 وسكَن بيروت وأَسس فيها دار منشُوراته، باتَ لبنان سماءَه ومنصةَ شعره. ومع فقدانه فيه بلقيسَه الغالية، ظلَّ على وفائه للوطن الذي قليلون بادَلوه الوفاء ولو أَنهم عاشوا بين أَبنائه. وبلغَني أَنَّ وَلَديه عُمَر وزينب يهيِّئَان لمئويته حدَثًا أَدبيًّا سيُبقيه في ذاكرة قرَّائه بعيدًا عن الخطابات الطنانة التي كم كان يكرهها نزار. فأَهمُّ ما يكافأُ به غياب المبدع، تَداوُلُ أَعماله إِعادةً وتَوَاصُلًا كما يليق بإِبداعه أَن ينتقل من جيلٍ إِلى جيل، فلا يطاله النسيان ولا يُطفئُه الغياب.
- عاصي الرحباني ( 4 أَيار 1923): كبيرُنا عاصي، ولا أَظُنُّ أَحدًا يشعر بغيابه، هو الباقي بيننا يوميًّا في إِيقاع لن يتغيَّر ولن يخبو، لأَن أَعمالَه، ولو بتوقيع الأَخوين، خالدةٌ في الزمان، ينصِّعها خالدٌ آخَر هو صوت فيروز الحاملة في نبضها، كما في أَوتار صوتها الفريد، أَمانةَ هذا الكنْز الرحباني الفريد، وهي التي وحدها، ولو بصمْتها الساطع، مدركةٌ عظمةَ عاصي الرُكن في العمل الرحباني، وتُدركُ تَوازيًا أَيضًا أَهميةَ منصور تعادُلًا في النص والميلوديا. وأَظنُّ يجرحُها هذا التفريق الفضولي السخيف في الفصل بين الأَخوين نَصًّا أَو لحنًا أَو مسرحًا، لاسكتشاف مَن منهما كَتَب ومَن لحَّن. وطالَما هما شاءَا هذا التوقيع الموحَّد حتى غياب عاصي (21حزيران 1986)، فلْنحترمْ غيابهما على تلك المشيئة النادرة في العالم. وما يصدر أَحيانًا من ثرثرات سخيفة سمجة عن نصوص أَخذاها من ثالث ونَسبَاها لهما، يبقى من البلاهة والبلادة دون أَن نُضيِّع عليه حبرًا أَو وقتًا، فمَن كان البحرَ لا تُعزى إِليه استعارةُ ساقية ضئيلة أَو جدول قليل. ولم يبلُغني، حتى كتابة هذا المقال، إِنْ كان في التحضير ما يَحتفل بمئوية الكبير عاصي، كما تحتفل الدول الكبرى بمئَوية ولادة مبدعيها.
- كتاب “النبي” (15 أَيلول 1923): في ذاك النهار، قبل 100 سنة، حملَ جبران النسخة المطبوعة الأُولى من كتاب عمره “النبي” وأَرسلها إِلى ماري هاسكل التي كم سَهِرَ وإِياها في بوسطن على مناقشة كلّ فكرة فيه وتنقيح كلّ عبارة. وفي رسالتها إِليه لدى تَلَقِّيها النسخة الأُولى كتبَت له: “هذا الكتاب سيعيش طويلًا ويكونُ ذخرًا للأَجيال المقبلة أَجوبةً عن كلِّ ما يستفهمون”. وفعلًا، ها هو نضِرٌ حتى اليوم، جديدٌ حتى اليوم، يعاد طبعه حتى بلغَت نسخ طبعاته الملايين وبلغَت ترجماته 110 حتى اليوم.
احتفاءً بهذه المئوية، تتهيَّأُ الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU، تعاوُنًا مع لجنة جبران الوطنية في بشرّي، لحدَث أَدبيّ كبير يليق بها وبالمئوية، متشعِّبٍ إِلى أَكثر من عملٍ، ليكون الاحتفاء على مستوى هذا الكتاب الأُعجوبي الذي نادرًا ما سأَلتُ أَحدًا في أَميركا إِلَّا وقال لي إِنه في مكتبته، وفي لبنان إِلَّا وأَجابني إِنه لديه، بإنكليزيته الأصلية أَو بإِحدى ترجماته إِلى العربية رغم تَفاوُتها.
ثلاثُ مئويات يحتفي بها لبنان الوطنُ الخالد، السائرُ في الزمان أَبديًّا بأَعلامه وأَعماله وعلاماته الإِبداعية، متخطيًّا هشاشة دولةٍ حوَّلَها أَهل سُلْطتها يتيمةً بين الدول، بائسةً بين الشعوب، فلا هذه الدولةُ تليق بالوطن اللبناني، ولا هذه السلطةُ جديرة بإِعادة الدولة إِلى مكانتها في لبنان الوطن.
وحدَه الإبداعُ اللبنانيُّ وطنُنا… إِلى هذا الوطن فلْننتسِبْ كي نستحقَّ لبنان.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com