مُزعجٌ ريمون جبارة. ومؤْلم. ومقْهور وقهَّار. لكأَنَّه في مسرحه انتقمَ من كلِّ ما وكلِّ مَن. لم يوفِّر من كرباجه حَدَثًا ولا أَحدًا ولا حتى المحرَّمات الدينية التي يتجنَّبُها المؤْمنون ولو أَرَّقتْهم… كثيرين كنَّا قبل يومَين في “مسْرح مونُّو” لا لنتابع بل لنَنْوَجع، بصمتٍ أَو بتأَلُّم، ونحن نشاهد كيف “زرادشت صار كلْبًا”: مسرحية ريمون جبارة التي أَطلقَها سنة 1977، وأَعادها لاحقًا سنة 1996، ثم استعادها بالأَرمنية هاغوب درغوكاسيان سنة 2016 على مسرح درمالكونيان، إِلى أَن تناولها أَخيرًا أَنطوان الأَشقر على “مسرح مونو” هذا الأُسبوع، وإِلى مساء هذا الأَربعاء 27 آذار الجاري، وكان لعبَ فيها دورًا رئيسًا مع ريمون جبارة في نسخة 1996.
طَوال العرض كان يحيِّرني أَنطوان الأَشقر بينه ممثِّلًا ومبدعًا بينه مخرجًا دقيقًا أَدار فريقًا جيِّدًا من سلمى الشلبي وجوزف ساسين ورامي عطالله وموران ملاعب، أَدَّوا جميعُهم أَدوارَهم في إِيقاع سريع مضبوط متلاحق حوارًا وأَداءً مسرحيًّا…
قلتُ إِن أَنطوان الأَشقر سطَع ممثِّلًا. ولعلَّه في “زردشت صار كلْبًا” يؤَدِّي قمَّة أَدواره، في تعابيرَ جسديةٍ وصوتيةٍ تنطلق من فواصل “أَلو ستّي” بين اللوحات الثلاث، وتتوزَّع على سائر مشاهده في تقْنيةٍ مسرحيةٍ عاليةِ الاحتراف.
لوحة “المسافر”، افتتاحًا، تروي قصة مُسافر شابٍّ مسكُون بالخوف الـمَرَضي، ويزداد رعبُه من حوارٍ في مقصورة القطار بين كاهن وضابط، حتى يؤَدِّي به هذا الرعبُ إِلى الموت بسكتة قلبية على مقعد القطار… في اللوحة الثانية “زيارة الطبيب” تداوُلٌ ساخر، بعضُه مرير، في تناول مواضيعَ منها الحياتيُّ ومنها الإِيمانيُّ المبالغ به حتى الكاريكاتور الـمُرّ… أَمَّا اللوحة الثالثة الأَخيرة “زردشت صار كلْبًا” فهي الأَكثرُ أَلَمًا وإِيلامًا. تلقَّفَها ريمون جبارة من مسرحية “حكاية الرجل الذي صار كلْبًا” نشَرها سنة 1957 الكاتبُ المسرحي الأَرجنتيني أُوسفالدو دراغُون (1929-1999)، وهو كان مدير مسرح سرفانتس في بونس إِيرس من 1996 حتى وفاته في أَزمة قلبية مفاجئة سنة 1999. سوى أَن ريمون جبارة، في نَصِّه، بدا أَكثرَ سخريةً وعبثًا من النص الأَصلي، فأَضاف عليه مرارتَه الخاصة وكوميدياهُ السوداء وكاريكاتورًا مؤْلِمًا في رسم ملامحَ موجعةٍ للممثِّلين الأَربعة، كأَنه صفعَ بهم ضمير المجتمع العاقِّ الذي جعل أُستاذًا جامعيًّا ومؤَلِّفًا أَكاديميًّا تنسَدُّ أَمامه أَبواب العمل ومصادر الرزق، هو القلِقُ على إِعالة زوجته وأَولاده، حتى رضيَ بالعمل الوحيد الذي أُتيح له: أَن يكون كلْبًا على مدخل مصنع أَذَلَّهُ صاحبُه إِذ جعلَهُ يركَع ويدُبُّ زاحفًا على كفَّيه وركبتيه كالكلْب تمامًا على مرأَى من زوجته حتى رأَيتُ عددًا من المشاهدين يمسحون دموعًا حارَّةً حافيةً من قوَّة الصفعة التي شكَّلَها ريمون جبارة ساخرًا قاسيًا موجعًا مقهورًا قاهرًا في هذه اللوحة المسرحية التي أَبدَع فيها أَنطوان الأَشقر: تمثيلًا بدَور الكلب، ومخرجًا نجحَ في إِبراز آخر نقطةِ قهْرٍ في مشاهد هذه اللوحة القاسية.
ولن أَختُمَ قبل أَن أُحيِّي مديرة “مسرح مونو”، جوزيان بولس، التي أَعادت الحياة اليومية إِلى هذا المسرح، فجعلَتْه منارةً ثقافيةً في قلْب بيروت، بتقديمها أَعمالًا مسرحيةً تتوالى طيلة أَيام الأُسبوع منذ سنواتٍ مضَت وإِلى سنواتٍ ستأْتي، ليكون “مسرح مونو” عنوانًا رئيسًا في مفكِّرة اللبنانيين روَّادِ المسرح فتستعيدَ بيروت أَلَقها الثقافي وتمضي به نبْضًا يستقطب مثقفي العالم العربي إِلى عاصمتنا التي جاء وقتٌ كانت فيه بيروت لؤْلؤَة الثقافية في العالم العربي.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com