قد لا يكونُ أَفضَلَ من هذا العنوان لوَسْم المعرض الاستعادي الكبير الذي نظَّمَه “برنامج أَميركا اللاتينية” لدى جامعة القديس يوسف في حَرَم المكتبة الشرقية.
من أَين تأْتي الريح؟ إِنها ريحُ لبنان توجَّهَت إِلى أَميركا اللاتينية أَدبًا وصحافةً، ومعها بعضٌ من تراث السوري تَوَاءَمَ مع اللبناني في ذاك الجنوب من القارة الأَميركية. وها هي الريحُ تأْتي إِلينا من هناك، حاملةً أَصداءَ ما يسمَّى “أَدب المهجر” أَو “الإِقامة في الأَدب”، كما سَـمَّتْها مديرةُ “برنامج أَميركا اللاتينية” السفيرة السيِّدة جورجين الشاعر ملَّاط.
صحيح أَن وسْمَ المعرض (D’où souffle le vent?) جاء من عنوان رواية الياس قنصل “في مهب الريح” (صدرَتْ سنة 1972 في بوينُس أَيرس)، لكنه مُوْحٍ تمامًا بما شاهدناه الأُسبوع الماضي في جناح المكتبة الشرقية بين مؤَلفات وصُحُف ومجلَّات صادرة إِبَّان حقبات مختلفة في الأَرجنتين والبرازيل والتشيلي وكولومبيا والمكسيك والأُوروغواي وفنزويلَّا، ومعظمها من مجموعة جورجين وهيام ملَّاط، إِلى ما لدى المكتبة الشرقية من تلك الكنوز.
منذ أَواسط القرن التاسع عشر نشطَت الهجرة من المشرق، وخصوصًا من لبنان، إِلى أَميركا اللاتينية، فاعتمدَ جُلٌّ من المهاجرين الكتابةَ لتمتين الروابط مع بلدانهم في الشرق، وتعزيز علاقات التواصل في حيثُ هُم من بلدان الغرب. هكذا تنامَت المطابع والمؤَلفات والصُحُف والدوريات بالعربية كما بالإِسبانية والبرتغالية، في أَدب مهجري متنوع الخصائص والإِصدارات، جاء مرآةً ناصعة لِما في وجدان أَعلامه من نفَس شرقي بَــثَّوْه في الجوالي هناك، كأَنه موحَّدُ الرسالة في تلك الحقبة من القرنين التاسع عشر والعشرين، مع ما لاقَوه هناك من صعوبات كم اقتحموها لينشئوا كيانًا لهم في بلدانٍ، حين وصلوها لم يكونوا يعرفون حتى لغاتها، وبُعَيْدَمَا استقرُّوا أَبدعوا حتى في لغات تلك البلدان، فأَسسوا المطابع، وأَصدروا الصحف والمجلات، وأَزهرت مؤَلفاتهم، شعرًا ونثرًا أَزهرت، حتى عانق المهجرُ الجنوبيُّ مهجرَ الشمال الأَميركي، وعانقَت “الرابطة القلمية” في نيويورك أُختها “العصبة الأَندلسية” في ساو باولو (البرازيل)، فتنامى الأَدبُ هناك في معظم الـمَهاجر الأَميركية، مُشكِّلًا نهضةً أَدبية وفكرية مباركة نبغَ منها شعراء وأُدباء وصحافيون ما زالوا حتى اليوم مراجعَ للدراسات والأَبحاث والمؤَلَّفات المعاصرة، بفرادتها وطابعها الخاص ذي النهكةِ البعيدةِ على قُرب، القريبةِ على نأْيٍ غيرِ مُشيحٍ عن أَصلٍ وجذور.
هذا هو الهدف الذي لأَجله كان هذا المعرض الاستعادي في حرَم المكتبة الشرقية ذاتِ التاريخ العريق في اكتناز العبقرية الإِبداعية اللبنانية والمشرقية. وهي خطوة لأَبنائنا من أَجيالنا الجديدة كي يطَّلعوا على ما في لبنانهم من شمسٍ تُشرق على الشرق والغرب فتلتمعُ بإِبداع لبنانيين مباركين مؤَسسين عالَمًا لبنانيًّا وتراثًا حيًّا حيثما حلُّوا، فيتعانقُ جناحا لبنان المقيم والـمُهاجر لتشكيل إِرثٍ عظيمٍ لا تغيب عنه الشمس إِشراقًا هنا ومَغيبًا هناك، حتى كأَنَّ الليل لا يعرف مكانًا له في أَيٍّ من اللبنانَيْن.
شكرًا للسفيرة جورجين الشاعر ملَّاط على بادرتها النبيلة الرسالية لتمكين الروابط بين الـهُنا والـهُناك، ففي هذه الروابط ينبوعُ الإِرث اللبناني الذي هو خُبزُنا الحقيقيُّ إِلى مائدة التاريخ، وهو حبّةُ القمح التي ما زالت تَتَسَنْبَلُ أَجيالًا من الوفاء والولاء لقدسيَّةِ لبنان اللبناني.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com