فراس محامٍ لبنانيٌّ تخرَّج قبل أَسابيع من جامعة مونتريال ورافق أَباه إِلى لبنان قبل أَيام، يُمضي فيه عطلةً قصيرةً يستذكر خلالها وطنَه الذي غاب عنه فتًى قبل ثماني سنوات حين اضطُرَّ إِلى مغادرته مع والدَيه للإِقامة في كندا.
حادثْـتُهُ لأَتبيَّنَ مشاهداتِه بعد غيابه فتًى وعودته شابًّا يتهيَّأُ لدخول المجتمع الكندي محاميًا في قطاع رجال الأَعمال لدى مجموعة فاسكِن الحقوقية (أَكبر مكتب محاماة في كندا – تأَسَّس في منتصف القرن التاسع عشر وهو اليوم، بعشرات فُروعه، من أَكبر مكاتب المحاماة في العالم). وجدتُ لديه حنينًا عميقًا للعودة إِلى لبنان. فهو جال على مناطق جبلية وساحلية، وزار مواقع سياحية وطبيعية، وهنئَ في مطاعم ومقاهٍ إِلى المآكل اللبنانية والفواكه اللذيذة، وحُسْن الضيافة والحرارة الاجتماعية لدى الناس، وسهولة ما يمكنه بلوغَه هنا بأَسرع مما في كندا من حيث المعاملات والعلاقات الودية الأَلُوفة.
وعما لم يحبَّه في هذا العطلة، قال لي إِنه فوجئ بحالة الترهُّل المخيفة في طرقاتٍ أَمست غيرَ مُعبَّدة ولا مَن يهتَمُّ بها، وفُوجئَ بغياب إِشارات المرور عند التقاطعات، وبإِهمال خطِرٍ في تراخي البنية التحتية، وبانعدام أَيِّ احترامٍ قواعدَ السير والقيادة، وبالفوضى في انتهاك النظام، كأَنَّ البلاد سائرة بلا هوادةٍ صوب مصيرٍ مجهول مرعب.
أَمام هذه السلبيات، سأَلتُهُ إِن كان، بالرغم من كل ذلك، يحب العودة إِلى لبنان والعمل فيه. وعوض أَن يجيبَني بالكلمات، فتَح هاتفه الخلَوي، وأَراني صورةَ غرفته في مونتريال، فإِذا فيها عَلَم لبناني من الحجم الكبير في واجهة الغرفة، وإِذا بمناظر من لبنان على جدران غرفته، ففهمتُ أَنه يعود إِلى لبنان الوطن حين تستقيم فيه الدولة.
أَما دانييلَّا، فصبية لبنانية تعيش في مونتريال هي الأُخرى، تخرَّجَت هناك من الجامعة وجاءَت قبل فترة إِلى لبنان فشكَّلَت فريقًا من 16 شابًّا وصبية، وأَسَّست مشروعًا سَمَّتْهُ “أَطلس التراث الحي”، هدفُه تفعيلُ الحِرَف اليدوية في بيروت، والبحثُ عن التراث اللبناني غير المادي. بدأَ ذلك قبل سنتَين بعد الكارثة التي حلَّت على حِرَفيِّي بيروت بانفجار 4 آب المشؤُوم. وبلوغًا إِلى ذلك، قامت دانييلَّا وفريقُها بجولاتٍ على حِرَفيِّين منسيِّين أَقامت معهم وُرَشَ عمل في أَحياء مار مخايل والجميزة وبرج حمود، وتولَّت تشكيل أَرشيفٍ رقميٍّ يتولى تسجيل العناصر التراثية بين صُوَرٍ وخرائطَ وأَقمشة، وجمعَت مادةً تراثيةً لعرضها في إِيطاليا لدى “المركز الثقافي الأُوروبي” في “معرض بيينالي البندقية للهندسة المعمارية” الذي بدأَ أَمس السبت في 20 أَيار ويستمر حتى 26 تشرين الثاني المقبل، فيشاهدُ زوار هذا المعرض الدولي الكبير ظاهرةً فريدةً تُبرز التراث اللبناني الغني منذ مئات السنين.
هكذا من كندا، بين فراس المحامي اللبناني الذي غادر لبنان إِنما لم يغادِره لبنان، ودانييلَّا الصبية اللبنانية التي تعمل على إِعادة الحياة إِلى التراث اللبناني، يتجلَّى أَنَّ الذي ينتقل إِلى الجيل الجديد هو لبنانُ الوطنُ الغنيُّ بإِرثه الخالد الذي لا يزول، ولا حائلَ للعودة إِلى لبنان إِلَّا دولة لا يعي رجالُ سلطتها أَيَّ وطنٍ استثنائيٍّ هم يَحكُمون ويُضَيِّعون فيه آمال الجيل الجديد بسَوق الشعب مزرعةً لهم يديرونها بمنطق القبيلة. فجيلُنا الجديد المهاجر، حيثُما هو في العالَم، يعرف كيف هناك تكون الدولةُ وقيادةُ الدولة بعيدًا عن المحاصصات وحُكْم المزرعة ومنطق القبيلة ورَشْوة الأَزلام والمحاسيب. وحين يَزول هذا المنطق نجد فراس ودانييلَّا ومئاتٍ من أَترابهما في جيلنا المهاجر، عادُوا إِلينا ليُعيدوا معنا بناءَ لبنان الجديد.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com