تغرُبُ شمسُ الـمُبْدع اليوميةُ فتُشرقُ شمسُ خلوده لا إِلى غياب.
هنا الفرقُ بين إِنسانٍ عاديٍّ يغيبُ فلا يبقى منه سوى ذاكرةٍ فرديةٍ في محيطه الأَصغَر، وإِنسانٍ مبدعٍ يغيب فيبقى طويلًا في الذاكرة الجَماعية الأَوسع.
هذه حال إِيلي شويري الذي ودَّعنا أَمس أَوتارَ صوته لكنَّ صدى صوتِهِ باقٍ بيننا لا إِلى وَدَاع.
بين “عيد” في “بيَّاع الخواتم” و”هَبّ الريح” في “هالة والملِك”، و”شهوان” في “جبال الصوّان”، و”ديك الميّ” في “ناطورة المفاتيح”، ومسرحياتٍ رحبانيةٍ رائعةٍ بلغَت خمسًا وعشرين، وأَعمالٍ تلفزيونيةٍ كثيرة، انطلقَ إِيلي شويري في فضاء الأَخَوَين رحباني قبل ستين سنة حضورًا محبَّبًا ثم واثقًا ثم ضروريًّا، حتى إِذا استقلَّ عنهما دون أَن يَتَنَكَّر لهما، كانت له أَعمالُه الخاصة التي كرَّسَتْهُ مبدعًا لحنًا وكتابةً، تمايزَ بها في قاموسه الشخصي، لا مقلِّدًا أَحدًا، ولا مُذَكِّرًا بأَحد، حتى بات ركنًا ركينًا من صرح الأُغنية اللبنانية التي لا تساوم ولا تتنازل.
وككلِّ مبدعٍ في النغم، كان هاجس إِيلي شويري أَن يُطْلِع من قلبه خفَقاتٍ جديدةً للَحنٍ جديد.
قبل بضعة أَشهر، في الثامن عشر من أَيلول الماضي، سأَلَني الصديق عبدالحليم كركلَّا أَن نزور إِيلي شويري نطمئِنُّ إِليه، بعد غيابه القسريِّ فترةً عن مسرح كركلَّا.
وفي بزمَّار، القرية الكسروانية الـمُعْنِقَة على أَحلام خليج جونيه، ومن شُرفة بيته الـمُطلَّة على مشهدٍ من أَبْهى جمالات الطبيعة اللبنانية، جلَسْنا إِليه وهو بين الإِنهاك والفرح: إِنهاك جسدٍ بدأَ يَخونه، وفرحه بلقائنا وإِيمانه بقُدرة الفن على التعافي. كانت عيناه أَحيانًا تَغيمان عنا إِلى البعيد، حتى إِذا عاد بهما إِلينا، نَفَحَهُ عبدالحليم بِهَبَّة أَملٍ أَنْ سَيَعود إِلى المسرح ويَصدحُ ويُطربُ ويُطلعُ الآهَ من قلوب المشاهدين.
حين نهضْنا للانصراف، نهض إِيلي كما من موجةِ استفاقة، وقال لعبدالحليم: “إِذا أَردتَ أَن تَشْفيني، هَـــيِّـــئْ لي نصًّا أُلَـحِّنُهُ لعملكَ الجديد”. وفي طريق العودة، فيما كنا ننحدر في الطريق المتَأَفْعِنَة بيت تلال حريصا المتطلِّعة بحنان إِلى خليج جونيه، كان عبدالحليم صامتًا في سكوتٍ يَضُجّ… وفجأَةً خرجَ من سُكوتِه لابسًا صوتًا واثقًا وبادَرني: “ستكون لإِيلي أَكثرُ من أُغنية في عملنا الجديد”… ولأَنني أَعرف عبدالحليم كركلَّا، وحنانَه الغامر على فرقته فردًا فردًا، وعلى أَعلامها صوتًا صوتًا، أَيقنْتُ أَنه بدأَ يُفكِّر في ما يُفَرِّح إِيلي شويري الذي، بعدما خرج من الفضاء الرحباني، دخلَ فضاءَ كَركلَّا فنَصَّعَ نجومَه بحضوره الـمُحبَّب.
سوى أَن الوهنَ اللئيمَ سبَقَ كركلَّا، وخطَفَ منا إِيلي شويري فيما هو ينتظرُ أَن يحضُنَ عُودَه ويُدندنَ اللحنَ الجديد.
وأَظُنُّه، وهو يغمضُ عينيه للمرة الأَخيرة، كان يفكِّر في مطالع اللحن الذي سيُطَرِّزُ به العملَ الجديدَ في مسرح كركلَّا.
على أَنه ولو فاجأَه الموتُ وهو يُدندِن، باقٍ يطرِّز قلوبَ قادريه في كل عملٍ أَبْدَعَهُ وتركَ لنا العود وذهبَ إِلى الْهُناك البعيد.
فإِنما دائمًا هكذا: تَغْرُبُ شمسُ الـمُبدع اليوميةُ لتُشْرقَ شمسُ خلودِهِ لا إِلى غياب. هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com