فيما يتخبَّط لبنان السياسي في وُحُول اللغط والتنظير والتكهُّنات والافتراضات والترجيحات، بين شغورٍ رئاسي وتخبُّطٍ حكومي وصراعٍ نيابي، يُواصل لبنانُ الثقافيُّ مسيرتَه الخلَّاقة في ثقةٍ وإِيمان، متخطِّيًا دُيُوكَ السياسة ومنظِّريها ومحلِّليها التلفزيونيين والإِذاعيين والاقتصاديين والماليين، ومتقدِّمًا نحو الإِنتاج الثقافي في وجوهه المختلفة. فهنا مسرحٌ يقدِّم عروضَه بنجاح، وهنا معرضٌ يستقبل زوَّاره إِلى لوحاتِ فيه وتماثيل، وهنا أُمسيةٌ موسيقية محلية راقية أَو أَجنبية شائعة، وهنا محاضرةٌ أَو ندوةٌ في نادٍ أَو معهد أَو مدرسة أَو جامعة، وهنا معرضُ كتُب لا يَفرَغ من روَّاده، وهنا توقيعُ كتابٍ يتكوكَبُ حول مؤَلِّفه أَصدقاءُ ومريدون، وهنا إِعلانٌ عن فيلم لبناني أَو أَجنبي لا يَخلو شبَّاكُ التذاكر إِليه، وهنا دُورُ نشْر تُصدر الكتابَ الجديد تلْو الكتاب برغم الصراع المرير على تجاوز كلْفة الطباعة وصعوبةِ التسويق في ظرف الانهيار المالي، … إِلى سائر المعالم الثقافية التي لا تتوقَّف في العاصمة أَو في المناطق، ما يُشير إِلى حيوية ناشطة في الحقل الثقافي، كما في الحقل الأَكاديمي، حتى يمكنَ القول إِن الوجهَ الوحيدَ الـمُشِعَّ في لبنان هو وجهُ لبنانَ الثقافي.
هذا الأَمر، إِذا استثنيتُ قسْمًا في شعبنا من المسيَّسين والمستزلمين والاتِّباعيين والأَزلام والمحاسيب، يدُلُّ على أَن شعبنا يقاوم بالثقافة التي لا خصُوم لها ولا متربِّصين ولا مُوالين ولا مُعارضين، بل لها إِجماعٌ على أَنَّ الفعلَ الثقافيَّ واحدٌ في كل لبنان، في أَيِّ حقلٍ من حقول الثقافة المعرفية. وهي هذه رسالةُ لبنانَ الحضاريةُ، المتواصلةُ من قبْل وباقية أَبدًا، لأَن لبنانَ الحضارةِ دائمٌ في الزمان، من أَول الزمان، لا يتوقَّف عند انتخاب رئيس، ولا يتعثَّر عند تشكيل حكومة، ولا يَحارُ أَمام تضارُب المواقف النيابية، ولا تُعيقُهُ أَزمةٌ اقتصادية عابرة ولو قاسية، ولا صعوبةٌ مالية زائلة ولو مريرة. إِنما لبنانُ الدائم هو لبنانُ الوطنُ الحضاريُّ الطالعُ أَبدًا من أَصالة شعبٍ يُحبُّ الحياةَ الثقافية، ويُقاوم لتبقى، ويناضل كي تستمر، فالثقافة الإِبداعيةُ علامةُ لبنان ومنارتُه على شعبه وفي العالم.
شعب لبنان الحقيقي؟؟ هو هذا شعبُ لبنان الحقيقي، بذا يقاس وهكذا يُعرَف، مشيحًا عن ضِعاف النفوس فيه ممن ينقادون خلف زعمائهم، عميانيًّا، ببغاويًّا، تعصُّبيًّا، يتخاصمون إِذا تخاصَم زعماؤُهم، ويتصالحون إِذا تصالحَ زعماؤُهم، لا رأْيَ لهم إِلَّا رأْيُ زعمائهم، وهم غافلون عن أَيِّ وجهٍ للبنان آخَرَ إِلَّا لبنان زعمائهم السياسيين، وزعماؤُهم نادرًا ما يعرفون عن لبنان إِلَّا حيث مصالحُهم المناطقية والحزبية والفئوية والطائفية والمذهبية والكوتا النيابية والبوانتاج الانتخابي، وقلَّما يعرفون، أَو يتحدَّثون لأَزلامهم، عن تراث لبنان الحضاري، وأَهمية العطاء الثقافي للبنان عبر العصور، لذا يَمضي أَزلامهم لا يَرَون من لبنان إِلَّا وجهَه السياسيَّ المحصور بشخصية زعمائهم.
لهذا أُخاطب شعبَنا دومًا لا بلبنانَ الدولةِ المتغيرة، ولا بلبنانَ السلطةِ المتعثرة، بل بلبنانَ الوطنِ الحضاريِّ الذي لأَجله نحيا ونعمل ونقاوم ونبشِّر أَجيالَنا الجديدة بشُروق شمسه الدائم على جبالنا وسهولنا ومناطقنا، كي يظلَّ أَبناءُ الجيل الجديد مؤْمنين بأَنَّ هذه الغُمَّةَ الحالية هي غُمَّةُ الدولة بسبب سْلْطتها الـمُغِمَّة، وليس هذا لبنانَ الثقافيَّ والحضاريَّ الذي بَهَاؤُه من عُمر الأَرز على تلالنا وسوف يبقى ساطعًا في الزمان ما دامَت شمسٌ تُشرق على الأَرز، وتسطَع على كلِّ لبنانَ الأَرضِ الأُمِّ وكلِّ شَعَّةٍ لبنانيةٍ في العالَم.
هـنـري زغـيـب
email@henrizoghaib.com