ظَلَّ اليهودُ سنواتٍ يَضغطون بلا كللٍ على المراجع الدولية الدينية والمدنية حتى يَسحبوا منها اعترافاًَ بظُلمهم التاريخي في “الهولوكوست” الذي كم ذكّروا فيه بِموتِ الأطفال والأبرياء. ومنذئذٍ وهُم يُمارسون في ساديَّة تاريخية تلذُّذَ انتقامِهم للهولوكوست بـ”هولوكوستاتِ” إباداتٍ متلاحقةٍ لا توفِّرُ أطفالاً ولا أبرياء، كما لو انّ ذكرى المحرقة الألمانية تولد في كل مولودٍ لديهم فيكبَر وتكبَر معه غريزة الانتقام.
وإذا كان الذين قضَوا من اليهود، يومَها، على أيدي النازيين، بسبب الممارسات السياسية، فاليهودُ ما زالوا يُمارسون إبادةَ مَجموعاتٍ من الشعب الفلسطيني بسبب الممارسات السياسية. وإلاّ فكيف نفسّر هذا الصمت العالَمي الْمُريب، بين جامعةٍ عربيةٍ أعجَز من أن تَجمع أقطابَها، وأُممٍ متحدةٍ تَجتمع لتُصدِر قراراتٍ غيرَ ملزمة، ومَجلسِ أمنٍ يزاول رفعَ الأصابع أو حجبَها في حين يَموتُ المئات في غزَّة غيرَ مدركين إلاّ آلةَ النار فوق رؤوسِهم تَحصُدُهم جُثَثاً وجثامين.
أمام هذا العجْز الفوقي، ما الذي يستطيعُهُ الشارعُ الهائج، مهما ثار وغضِب ورفَعَ الشعارات أمام كاميرات التلڤزيون، ومهما صاحَ حتى آخرِ الحناجر “بالروح بالدم نفديك يا”، ومهما بثَّت الإذاعاتُ من أغنياتٍ وأناشيدَ ثوريةٍ وحماسية.
ولكنْ، هل يعني ذلك قتلَ القضية أو دهسَ الرمَق حتى النَّـزْع الأخير؟ أبداً. على العكس. هذا القهر يُفَولِذُ الـ”لا” حتى أقصى امتداداتِها النفسيّة والروحيّة والجسديّة. إنّ لأهل الأرض والحق والتراث قدرةً على الاحتمال لا يقدِّرُها غازٍ ولا غاصبٌ ولا مُحتلّ، ولا يقدِّر طاقتَها صاحبُها نفسه، حتى يكتشفَ في ذاته تغلُّباً عبرها على ضَعفه وخوفه وتردُّده. ذلك أنّ في قهر الجسد تسامياً للروح يُعليها الى أقصى طاقات النوايا، وهي طاقاتٌ لا الى حدود. قهرُ الجسد طريقٌ الى الخلاص. ولنا من الرَّهابين في أديارهم والنسَّاك في خلواتهم نَماذجُ نُذُورٍ تعتنق قهر الجسد (المشي حفاة، لبس الخشن، النوم غير المريح على الأرض أو على بِلاس، …) من أجل بلوغ حالةٍ من الطاقة الروحية تفوقُ أضعاف طاقة الجسد مهما عَتَا.
إذا كانت هذه حالةَ الفرد في الاحتمال، فكيف بها حين تنسحب على شعبٍ كاملٍ يَحتمل، وتَتَفَوْلَذُ لديه قدرةُ الاحتمال والْمُجالدة والصمود والرفض والشحن بالغضب على عدوٍّ يترصَّده لا في أرضه بل حتى في تاريخه.
وإذا كان الفردُ هو الجغرافيا، فالشعبُ هو التاريخ. ولا قدرةَ لطاغٍ أو عاتٍ أو ظالِمٍ أو مُحتلٍّ أو غاصبٍ أو دكتاتور أو نيرون أن يَمحو ذاكرة التاريخ أو مستقبل التاريخ ولو هو استطاع أن يَمحو ماضي الجغرافيا أو حاضر الديموغرافيا.
حين يصرخ الرفضُ في حناجر الشعب، كلّ الشعب، يطال الضمير لا السمع، والقلب لا العقل، والمصير لا المساومات. ومتى ثار شعبٌ بكامله على نظامٍ أو عدوانٍ أو دكتاتورية (في بلاده أو عليها) فلا قوةَ تقفُ في مواجهة زحف الحناجر الى قدَرها المطلقيّ. وإذا الأفراد سقطوا، أطفالاً أو نساءً أو مُحاربين، فالشعبُ لا يسقط لأن للشعوب قوةً خارقة كلَّ قدرةٍ طبيعية ولو انْهالت عليها ضرباتُ القصف والدمار والنيران من كل نوعٍ وآلةٍ وثأرٍ، لأنها موقنةٌ أنّ صمودَها هو وحدَه طريقُ الخلاص، وأنْ ليس للظلم إلا أن يَندحرَ أو يساومَ أو يُصالِحَ أو يَقبلَ بِما لا تَقبلُ سواهُ الشعوبُ الحرة.
كلُّ شعبٍ صاحبِ أرضٍ وصاحبِ حقٍّ وصاحبِ سلطةِ تاريخٍ، صمُودُهُ سلاحُه الأقوى، وسقوطُ ضحاياه بشارةُ بقائه حياً مهما تزايدَت أعدادُ الجثامين أمامَ تفجُّع البكاء.
ووحدَه هذا السقوطُ يَرفعُ روحَ الشعب الى قوةٍ خارقةٍ لا تضاهى، وهذا ما لَم يُدركْه بعدُ أيُّ غاصبٍ يَجتاح أرضاً شعبُها يَستشهد، أو شعباً علامتُه أنه ابنُ الحياة.